الاثنين، 15 سبتمبر 2008

قراءة موضوعية لمفهوم "المجتمع المدني".

قراءة موضوعية لمفهوم "المجتمع المدني".

يكتسب مفهوم (المجتمع المدني) حضوراً متزايداً في الخطاب العربي والإسلامي؛ وتتجلى صور هذا الحضور في رغبة جميع القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بمختلف أيديولوجياتها، في زيادة هامش الحراك داخل المجتمعات العربية، وفي تفعيل دور المجتمع في الرقابة والتطوير كخط موازٍ لمؤسسات الدولة الرسمية. فالهدف المنشود من رفع شعار (المجتمع المدني) هو التكامل مع مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية، لا الانقضاض عليها أو تهميشها. وينصرف تعارض المصالح داخل المجتمع إلى شحن مفهوم (المجتمع المدني) بمدلولات ليست منه، أو إلى تفريغ المفهوم من مضمونه بحيث تسهل إدانته ورفضه. لذلك سيسعى هذا البحث المختصر إلى محاولة قراءة المفهوم في منشئه الأصلي، وفي ضوء ما تراكم من آراء الباحثين المهتمين به وبتطبيقاته. ولا يزعم هذا البحث الإحاطة بكل تفصيلات المفهوم، أو إنهاء الجدل حوله، ولكن من المؤكد أنه ينطلق من رغبة جادة في إعطاء الموضوعية والتحليل مكانهما اللائقين من جميع أجزاءه.

نشأة المفهوم؟
كان هاجس الاستقلالية عن سلطة الكنيسة ، وسلطة الدولة الإمبراطورية في التجربة الأوروبية ، يشكل محورًا رئيسياً في نشأة مفهوم (المجتمع المدني). ويمكن القول بصورة عامة أن مفهوم (المجتمع المدني) كان يتحدد قبل الفيلسوف الألماني فردريك هيجل [1831 ـ 1770] على أنه طرف آخر في مقابل سلطة الكنيسة وسلطة الحكم الاستبدادي ، فالمجتمع المدني عند الفيلسوف الإنجليزي جون لوك [1704 ـ 1632] يتحدد بكونه مجالاً مستقلاً عن الدولة ، منحصراً في الجماعة الأهلية ، وروحها التضامنية من خلال العقد الاجتماعي ، فهو يقرر بأن "البشر مستقلون ، متساوون ، وليس لأحد أن يلحق الأذى بهم ، وبحياتهم ، وبصحتهم ، وبحريتهم أو ممتلكاتهم"[i][1]. وعلى ذات المسار الفكري لجون لوك، سار الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو [1755 ـ 1689] محددا (المجتمع المدني) بأنه "البنى الوسيطة بين الحاكم والمجتمع"[ii][2]، ولكن مع فردريك هيجل بات (المجتمع المدني) يمثل لحظة من التطور في المجتمع الأوروبي تقع بين الأسرة والدولة[iii][3]، أي أن (المجتمع المدني) كما حدده هيجل هو عبارة عن "مرحلة بين الرابطة الأسرية القائمة على القرابة والتبعية المباشرة وبين الدولة الممثلة للمصلحة العامة"[iv][4]. وتأكيداً لما قرره فردريك هيجل، يسوق الدكتور محمد عابد الجابري في معرض تتبعه لتاريخ مفهوم (المجتمع المدني) في الثقافة الأوربية ما يفيد بأن ظهوره محملاً بهذه المعاني قد أتى كاستجابة طبيعية لثلاث اعتبارات مركزية هي كالتالي: "باعتباره البديل لسلطة الكنيسة على المجتمع من جهة، والبديل لسلطة الدولة الإمبراطورية التي قوامها ثنائية الراعي- الرعية من جهة ثانية، والبديل لهيمنة الأسرة التي تتمثل في الأب الذي يتحول في النظام البطريركي إلى شيخ قبيلة من جهة ثالثة"[v][5]. فمفهوم (المجتمع المدني) قد ارتبط عضوياً بالتطور الذي شهده المجتمع الأوربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في ميادين التجارة والصناعة والعلم، وبالتالي الاجتماع والسياسة. في ظل هذه التطورات، لم تصمد الكنيسة ومنظومتها الفكرية في وجه زحف التيار العقلاني ربيب فكر الأنوار، وتفككت العائلة بفعل الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي البرجوازي، وحلت محلها الشركات والنقابات والجمعيات ، وهيمنت التجارة ومنطقها ، فتعززت الفردية من جهة ، وساد التبادل والاعتماد المتبادل الذي تؤسسه المصلحة الخاصة من جهة ثانية. وجماع هذه التطورات هي مضمون مصطلح (المجتمع المدني)[vi][6].

مضامين متعددة لمفهوم واحد !
إذا أردنا إعطاء تعريف مبسط لمفهوم (المجتمع المدني) سنقول بأنه "نوع من الحياة الاجتماعية والاقتصادية بمعزل عن وصاية وهيمنة الدولة المباشرة"[vii][7]. أما قاموس أكسفورد الوجيز فيعرِّف (المجتمع المدني) بأنه "مجموعة من الروابط (التجمعات) الوسيطة التي تقع بين الدولة والأسرة الممتدة، والتي يقوم الارتباط فيها على الإنتماء الطوعي"[viii][8]. ولعل القارئ يلمس اشتقاق تعريف (المجتمع المدني) في قاموس أكسفورد الوجيز من التعريف الذي وضعه فردريك هيجل والذي يعد من أكثر التعاريف الرائجة والمعتمدة بين الباحثين. وهناك من الباحثين من ينطلق في تعريفه (للمجتمع المدني) من الصفات الذي حددها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك فيقول "للمجتمع المدني هياكل وتنظيمات تقوم في عملها ووظائفها وكذلك في علاقتها مع الآخرين على منظومة قيمية معينة أهمها الحرية المكفولة للجميع ، وقبول الآخر ، والتعددية والحوار ، والتسامح والتنافس السلمي. هذه القيم هدفها الحدّ من تعاظم النزعة التسلطية للدولة"[ix][9]. ومصطلح (المجتمع المدني) له مرادفات عديدة في الخطاب العربي، منها على سبيل المثال لا الحصر: (المجتمع الأهلي)، (المجتمع المدني الأهلي)، (تجمعات المجتمع المدني الأهلية)، ... إلخ. وقد قام أحد الباحثين بتفكيك أحد هذه المرادفات وهو مصطلح (تجمعات المجتمع المدني الأهلية) فوجده تركيبا يقوم على ثلاثة مفاهيم " أولاً: تجمعات ، أي تكتلات كالجماعات والنقابات ، والجمعيات والروابط والمنتديات. ثانياً: أنها مدنية ، أي ليست تكتلات قبلية أو عنصرية ، تعتمد على علاقات القرابة والنسب ، ولا تكتلات إقليمية ، تعتمد على علاقات المجاورة في الحارة والمساكنة في القرية ، وإنما هي تكتلات تعتمد على التخصص والعمل ، أو الرؤية الاجتماعية والسياسية والثقافية. ثالثاً: أنها أهلية ، أي غير الرسمية/ غير الحكومية ، وقد استقرت كلمة الأهلي ـ في اللغة العربية المعاصرة ـ بهذا المعنى ، وكانت مصطلحاً رائجاً منذ بدايات عصر النهضة ، للتعبير عن تكتلات المجتمع المدني ، ووصف تكتلات المجتمع المدني بالأهلية لا يحدد وظيفتها بأنها غير مدنية، ولا بأنها حداثية أو تقليدية، ولكنه يحدد طبيعتها بأنها غير رسمية ، وهو ما يجنبنا من الإضطراب"[x][10].

وحتى لا يتشتت القارئ بين هذا الكم من التعريفات، يمكننا أن نجمل القول بأن للمجتمع المدني خاصيتين واضحتين هما، الإستقلالية والتنظيمية. أما الأولى، الإستقلالية، فارتباطها بالمفهوم هو ارتباط عضوي ثابت، أي أنه يستحيل تجريد المفهوم منها، فلابد للمجتمع المدني أن يستقل عن الدولة وعن أي مؤسسة شمولية. أما الثانية، التنظيمية، فارتباطها بالمفهوم هو ارتباط ظرفي، بمعنى أنها صيغة تُنظم المجتمع، أو قالب تنظيمي يطرأ مع بلوغ مجتمع ما من المجتمعات درجة معينة من التعقيد في كافة علاقاته، وهذه الصيغة تستجيب للمرجعية المعتمدة في المجتمع دون أن تتحيز لأيديولوجية أو شكلية معينة.

ظهور التداول العربي للمفهوم؟
من الصعب تحديد بداية ظهور مفهوم (المجتمع المدني) في التداول العربي الحديث، بيد أن تطور الدولة المركزية القطرية في العالم العربي قد وصل إلى مرحلة أضحت فيها الدولة القطرية متسيدة ، بل ومحتكرة لكافة مناحي الحياة. فالدولة في العالم العربي تحتكر زمام المبادرة في جميع المجالات الحياتية، ولها القدرة على التأثير ، سلباً أو إيجابأ، في جميع هذه المجالات. هذا الدور الدولتي المتعاظم أدى إلى إعاقة آليات المحاسبة والمشاركة السياسية والاجتماعية من التشكل، وفي بعض الأحيان، إلى إبطاء عملية الانتقال الديمقراطي في بعض الأقطار العربية. لذلك سعت النخب العربية إلى طرح بعض المفاهيم المستوحاة من الفكر الغربي ، ومفهوم المجتمع المدني أحدها، والتي من شأنها إعادة الاعتبار والحيوية للمجتمع في المشاركة والمحاسبة والتطوير. أضف إلى ذلك أن أدواراً أخرى كان لها فضل في ظهور الوعي بمفهوم (المجتمع المدني)، كانتشار التعليم الحديث ،الأساسي والعالي، على نطاق واسع؛ والاحتكاك بالغرب من خلال التعليم، والتواصل الثقافي معه ؛ وارتباط المصالح العربية/الغربية. في ضوء هذه المعطيات، تولّدت نخب قادرة على التواصل والتفاعل مع العالم الغربي في شتى المناحي البيروقراطية والثقافية والتعليمية. والأهم من ذلك هو أن تعاظم أدوار تلك النخب "الحداثية" ومشاركتها في التطوير والتحديث قد قلص من أدوار النخب التقليدية (شيخ القبيلة، عالم الدين، رئيس الطائفة، ...، إلخ) بصورة لم تعهدها المجتمعات العربية من قبل.
إن ثمة إغراء يجعلنا نسارع لربط هذه الظواهر الاجتماعية الإنسانية شرقا وغربا ببعضها البعض، وذلك من أجل تبسيط فهمها، أو بتعبير الدكتور محمد عابد الجابري، يجعلنا نطابق بين "الاعتبارات المذكورة التي تحدَّدَ بها هذا المفهوم في أوروبا النهضة والأنوار ، وبين الاعتبارات التي تحدده الآن في العالم العربي ... ذلك أن مفهوم المجتمع المدني يعني في تصور النخبة التي ترفعه شعاراً: البديل من المجتمع الذي تهيمن فيه أفكار وتطلعات (رجال الدين) من جهة، والبديل من سلطة الدولة الاستبدادية الشمولية من جهة ثانية، والبديل من النظام القبلي والمجتمع الطائفي الذي تكون فيه الكلمة العليا لشيخ القبيلة أو رئيس الطائفة من جهة ثالثة. غير أن هذه المطابقة سرعان ما يتبين خطأها وخطرها عندما نتنبه إلى ثلاثة أمور: الأول أن كلام المفكرين في أوروبا النهضة والأنوار عن (المجتمع المدني) كان يخص مجتمعات كانت تنتقل فعلاً من المجتمع الزراعي الإقطاعي إلى المجتمع الصناعي الحداثي. والثاني أنه كان جزءاً من سياق تطور تاريخي كان يخضع بكامله للمعطيات الداخلية الذاتية الخاصة بهذا المجتمع الأوروبي أو ذاك، أعني بذلك غياب التأثير السلبي لأي عامل خارجي. والثالث أن كثيرا من المشاكل الداخلية ، الاقتصادية منها والاجتماعية ، التي كان يعانيها المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت ، قد أمكن تجاوزها بفضل التوسع الاستعماري: الهجرة إلى المستعمرات ، موادها الأولية ، عائدات أسواقها ... إلخ. وهذه أمور غائبة تماما بالنسبة إلى العالم العربي الراهن"[xi][11]. إلا أنه بالإضافة إلى خطورة المطابقة التي تحجب الرؤية الموضوعية تماماً (والخطورة التي يتحدث عنها الدكتور الجابري في الإقتباس السابق هي خطورة المطابقة لا خطورة التشابه) تكمن خطورة أخرى وهي نفي الظروف الداخلية الملحة، وإعطاء ذريعة للانطباع الخاطئ القائل بعدم حاجتنا إلى التدافع الفكري والاستفادة من المفاهيم الغربية الناتجة عن فكر النهضة والأنوار الأوروبي!

الموقف الإسلامي من المجتمع المدني: تنافر أم تواؤم!
يُعتبر مفهوم (المجتمع المدني) من المفاهيم الإشكالية في الخطاب الإسلامي بكافة تموجاته. لذلك من الصعب أن نعثر على مقاربة واضحة، ناهيك عن نظرية إسلامية متكاملة عن المجتمع المدني! وغالبا ما يدور الجدل حول المفهوم بين معارضٍ يرى في نشأته وتاريخه ومضمونه الغربي سبباً لنبذه ، وبين مؤيدٍ يحاول توفيق مضمونه بما يتلاءم مع الإسلام ذاته ، أو مع التجربة الإسلامية التاريخية. ومن نافل القول أن أدبيات التوجه الثاني، الساعي إلى التبيئة والتوفيق، تتجاوز بكثير أدبيات التوجه الأول ،الممانع، الذي يرى في مفهوم (المجتمع المدني) مصادمة صريحة للإسلام[xii][12]، وأنه غالباً ما يشكّل بوابة عبور إلى الدولة العلمانية[xiii][13]. أحد دعاة التوجه الثاني وهو الدكتور أبوبكر باقادر يرى بأن "جذور المجتمع المدني ، كما هو حالة استقلال أو توازن مع الدولة ، موجودة بكثافة في العمق التاريخي للوعي العربي". ويؤكد هذا القول تحليل وجيه كوثراني الذي يرى أن ثمة قوى أدت أدواراً مهمة في إنعاش مفهوم (المجتمع المدني) بالمفهوم الهيجلي (أنظر تعريف هيجل للمجتمع المدني في فقرة "نشأة المفهوم"). هذه القوى تتمثل في ثلاث منظومات أسماها: "أولا ، الدولة/ الشريعة/ العصبية/ الملة. ثانياً ، التنظيم الحرفي/ الطرق الصوفية/ الأسواق والحارات أو فعاليات المدينة الإسلامية. ثالثاً ، الوقف والخدمات الاجتماعية والعملية"[xiv][14]. بيد أن الدكتور أبو بكر باقادر ينقد على الفكر الإسلامي التقليدي تركيزه الأساسي على مسألة الدولة، وتكريس مجهوده في ترسيخ مركزيتها بهدف الحد من من انتشار الفتن والفوضى التي كانت قدر المجتمعات الإسلامية في مراحل عديدة من تاريخها السياسي الطويل[xv][15]. وفيما يتعلق بعدم شيوع المفهوم في الثقافة الإسلامية، وضرورة خلق الظروف الموضوعية التي تساعد على تشكله، يقول الدكتور عبدالله الحامد " إن عدم شيوع المفهوم ولا تحديد عناصره وعدم ظهور تكتلاته ، في أنماط راسخة في الأعراف الاجتماعية ، لا يعني أن الإسلام لم يتبن مبادئ المفهوم ، فضلاً عن أن يتصور أن المفهوم لا ينسجم مع العقيدة الإسلامية. فقيم المجتمع المدني كحقوق الإنسان والديمقراطية ، والحرية ، والعدالة والمساواة وأطرها السياسية: كالدستور والفصل بين السلطات الثلاث ، واستقلال القضاء ، مجموعة مفاهيم أنتجها الغرب ، ولكنها مفاهيم إنسانية ، موجودة الجذور في أي ثقافة ذات حضارة ، ويمكن اليوم لأي ثقافة أن تستدخل المصطلحات الغربية ضمن منظومتها ، وأن تزيد فيها وتعدل وتصهر وتفرز ، حتى تتناسب مع خصوصيتها"[xvi][16]. يعزز قول الدكتور الحامد في بعض جوانبه رأي المفكر والرئيس السابق للجمهورية الإيرانية محمد خاتمي إذ يقول "إن عصرنا الحالي هو عصر، هيمنة الحضارة الغربية التي لا مفر من قراءتها قراءة فاعلة تجتاز المظاهر والظواهر وتتوغل في المبادئ النظرية والأسس القيمية لتلك الحضارة، وهذه المعرفة ضرورية على الرغم من إن المحور في المجتمع المدني الذي نطمح إليه هما الفكر والثقافة الاسلامية، إلا أن هذا المجتمع يجب أن يكون خالياً من الاستبداد الفردي والجماعي، بل وبعيداً حتى عن ديكتاتورية الأكثرية .... مجتمعنا المدني، ليس ذلك المجتمع الذي يكون فيه المسلمون وحدهم أصحاب الحق ومواطني النظام، بل هو المجتمع الذي يكون فيه كل انسان يؤمن بالنظام والقانون هو صاحب حق"[xvii][17].

يبدو جلياً من هذه الاقتباسات أن الفكر الإسلامي الساعي إلى التبيئة والتوفيق يعي ضرورة (المجتمع المدني) في مستقبل التنمية السياسية والاجتماعية في الأوطان العربية والإسلامية. ولكن لو تأملنا حال الاجتهاد الإسلامي لوجدنا اعتماده الرئيس على آلية تنزيل المفاهيم السياسية والاجتماعية مثل الديمقراطية، والأحزاب السياسية، واستقلال السلطات الثلاث، والمجتمع المدني، على مبدأ (الشورى) الإسلامي. وليس ثمة شك بأن أغلب تلك المفاهيم الحديثة تجسد مبدأ "الشورى" بشكل أو بآخر. وبالتالي يجد الفكر الإسلامي في مفهوم (الشورى)، الرحب والمرن، نقطة انطلاق رئيسية تسهل عليه عملية تأصيل تلك المفاهيم الغربية ضمن المنظومة الإسلامية. إلا أن رد جميع المفاهيم والنظريات الاجتماعية والسياسية الحديثة إلى مبدأ (الشورى) يكشف عن عجز الفكر الإسلامي عن إبداع نظريات إسلامية معاصرة لإشكاليات الدولة والمجتمع في الوقت الراهن. وهنا، سأتوقف، وأدعو القارئ الكريم إلى التأمل معي: لا يكف الفكر الإسلامي عن نبذ التبعية للفكر الغربي، وربط التخلف الحضاري العربي والإسلامي بها، ولكن، ألا يسوغ لنا القول بأن الفكر الإسلامي يكرس تلك التبعية ـ دون أن يشعرـ بعجزه عن إبداع نظريات ومفاهيم تستجيب لحجم التعقيد المحيط بالفضاء السياسي والاجتماعي المعاصر؟ ونحن هنا لا ننفي محورية مبدأ (الشورى) في الفكر الإسلامي، وإنما نحاول الكشف عن مدى عجز الفكر الإسلامي عن استنبات الآليات المساعدة والمجسدة لمبدأ الشورى، وذلك يقود إلى حتمية استيراد الحلول من الفكر الغربي!

عوائق بنيوية أمام التحول الحضاري!
يتحدث الكثير من الباحثين عن العوائق البنيوية التي تعتري مسار (المجتمع المدني)، وتتراوح تلك العوائق بين أشكال شتى، قانونية/سياسية، اجتماعية/فكرية، واقتصادية. أما فيما يتعلق بالبنية القانونية المنظمة لتجمعات المجتمع المدني، ولحريات الأفراد والمؤسسات داخله، فما تزال أغلب الأقطار العربية تراوح بين جدلية "فقدان" منظومة القوانين الوضعية المتعلقة بتنظيم حركة (المجتمع المدني)، وبين "تقييد" منظومة القوانين، على افتراض وجودها ابتداءاً، ووضعها تحت الرقابة الصارمة للمؤسسات الأمنية. أضف إلى المعطى القانوني السياسي معطىً آخر يتحدد في الجانب الفكري الاجتماعي، فالمجتمع المدني في ضوء الممارسة الحالية في الوطن العربي يعاني من إشكالية عدم حسم مسألة التعددية الاجتماعية والسياسية. فثمة استقطاب يطال مفهوم (المجتمع المدني) يتجلى في سعي النخب العربية ـ المحافظة والحداثية ـ إلى الاستحواذ على مفهوم (المجتمع المدني) وحصره على توجه أيديولوجي دون آخر، وتطويعه بطريقة تجعله فاقداً لفاعليته واستقلاليته. وإذا لم تحسم إشكالية التعددية الاجتماعية والسياسية ـ على مستوى النظرية والتطبيق ـ فلن نستطيع كمجتمعات عربية إسلامية من تمهيد الطريق للمجتمع المدني لمراكمة جهوده ، ولن نستطيع أيضاً من إتاحة الفرصة العادلة أمام مؤسساته من تطوير صيغة تتلاءم مع خصوصية الوضع العربي الإسلامي. ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أن تنامي الوعي الاجتماعي يشكل دعامة أساسية من دعائم (المجتمع المدني)، إذ إن العامل الحاسم في تكوين مؤسسات (المجتمع المدني) وتجذرها، هو روح المبادرة لدى المواطنين، والرغبة في الاعتماد على النفس ، بدلاً من الاتكال على الدولة ومؤسساتها الرسمية. إن تنظيمات (المجتمع المدني) في العالم الغربي تتمتع بهامش كبير من النضج والحيوية، إذا ما قورنت مع مثيلاتها في العالم العربي ، وذلك يجعلها في موقع أقدر على مقاومة ضغوط الدولة الرقابية[xviii][18]. أما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، فإن نوع الاقتصاد السائد في الأقطار العربية يسيطر عليه قطاعان لا يساعدان على إيجاد ذلك النوع من الاقتصاد الذي تهيمن فيه المؤسسة المستقلة عن الدولة، التي هي الأساس الذي يقوم عليه (المجتمع المدني) ومؤسساته السياسية والثقافية. هذان القطاعان هما: "أسلوب الإنتاج الزراعي غير المصنع، الذي يكرس هيمنة الطابع البدوي القروي في المجتمع، الطابع المناقض بنوع مؤسساته وتقاليده والعقلية السائدة فيه لخصائص (المجتمع المدني)"[xix][19]. و القطاع الثاني هو: "الريع وما في معناه ، أعني الدخل الذي يأتي الدولة ، لا من مسلسل عملية الإنتاج في داخل البلد ، بل من عائدات النفط والعمال المهاجرين والاستغلال لهذا الموقع الاستراتيجي أو ذاك ، والهبات والقروض وعائدات السياحة .... الخ. هذا النوع من الدخل الذي يشكل العنصر الأساسي في اقتصاديات جل الأقطار العربية في الظرف الراهن يقع تحت تصرف الدولة ، أي تحت تصرف الطبقة المسيرة ، تنفق منه في حماية نفسها وتعزيز سلطتها وتقوية أجهزتها ، مما يجعلها مستقلة كلياً ، أو إلى حد كبير ، عن دافعي الضرائب (الذين كانت مطالبتهم في أوروبا بحقهم في مراقبة طريقة صرف الحاكم لأموال الضرائب هي الأصل في الديموقراطية الحديثة). والدولة في العالم العربي تمول بفضل الطابع الريعي للاقتصاد ، وبالطريقة التي تريد ، المشروعات العامة والخدمات الاجتماعية ، فضلاً عن أجور الموظفين ودعم المواد الغذائية ، مما يجعل يدها هي العليا في كل مجال ، عليها تتوقف حياة الأفراد والمؤسسات ، ولا تتوقف هي على أية قوة اقتصادية مستقلة عنها"[xx][20].

إن الموجة الإصلاحية التي تعصف بالأقطار العربية في شتى المجالات الحياتية لا يمكن التنبؤ بمدى جدواها أو فعاليتها في المدى المنظور، ولكن ما يدعو إلى الأمل والترقب هو أن رياح الإصلاح قد أحدثت نقلة كمية ونوعية ملموسة في سقف المطالب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فالحديث عن المجتمع المدني، وتوسيع المشاركة السياسية، والشفافية، والحريات العامة، وتحرير الاقتصاد الوطني، ... إلخ، الذي كان الاقتراب منه في السابق يؤدي بصاحبه إلى العنت والنبذ الاجتماعي والسياسي، أضحى اليوم من المفردات الدارجة على ألسنة الناس. هذه الأحاديث التي تجري في أوساط النخب، وما يصاحبها من جدل يشارك فيه الرأي العام ، ستؤدي بلا شك ، إلى زيادة هامش الوعي بحجم التحديات المطروحة، وسبل تحقيقها. فالمجتمعات العربية تخوض عملية تحول حضارية كبرى، أو برأي الدكتور محمد عابد الجابري "تشهد عملية انتقال من حضارة البادية والقرية وعقليتها وسلوكها ، فضلاً عن اقتصادها، إلى حضارة المدينة التي تهيمن فيها الصناعة والتجارة والخدمات العامة ، من مجتمع المؤسسة الطبيعية (القبيلة وما في معناها) إلى مجتمع المؤسسة العقلانية"[xxi][21].



وائل فؤاد أبومنصور



قراءة موضوعية لمفهوم "المجتمع المدني".

يكتسب مفهوم (المجتمع المدني) حضوراً متزايداً في الخطاب العربي والإسلامي؛ وتتجلى صور هذا الحضور في رغبة جميع القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بمختلف أيديولوجياتها، في زيادة هامش الحراك داخل المجتمعات العربية، وفي تفعيل دور المجتمع في الرقابة والتطوير كخط موازٍ لمؤسسات الدولة الرسمية. فالهدف المنشود من رفع شعار (المجتمع المدني) هو التكامل مع مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية، لا الانقضاض عليها أو تهميشها. وينصرف تعارض المصالح داخل المجتمع إلى شحن مفهوم (المجتمع المدني) بمدلولات ليست منه، أو إلى تفريغ المفهوم من مضمونه بحيث تسهل إدانته ورفضه. لذلك سيسعى هذا البحث المختصر إلى محاولة قراءة المفهوم في منشئه الأصلي، وفي ضوء ما تراكم من آراء الباحثين المهتمين به وبتطبيقاته. ولا يزعم هذا البحث الإحاطة بكل تفصيلات المفهوم، أو إنهاء الجدل حوله، ولكن من المؤكد أنه ينطلق من رغبة جادة في إعطاء الموضوعية والتحليل مكانهما اللائقين من جميع أجزاءه.

نشأة المفهوم؟
كان هاجس الاستقلالية عن سلطة الكنيسة ، وسلطة الدولة الإمبراطورية في التجربة الأوروبية ، يشكل محورًا رئيسياً في نشأة مفهوم (المجتمع المدني). ويمكن القول بصورة عامة أن مفهوم (المجتمع المدني) كان يتحدد قبل الفيلسوف الألماني فردريك هيجل [1831 ـ 1770] على أنه طرف آخر في مقابل سلطة الكنيسة وسلطة الحكم الاستبدادي ، فالمجتمع المدني عند الفيلسوف الإنجليزي جون لوك [1704 ـ 1632] يتحدد بكونه مجالاً مستقلاً عن الدولة ، منحصراً في الجماعة الأهلية ، وروحها التضامنية من خلال العقد الاجتماعي ، فهو يقرر بأن "البشر مستقلون ، متساوون ، وليس لأحد أن يلحق الأذى بهم ، وبحياتهم ، وبصحتهم ، وبحريتهم أو ممتلكاتهم"[iii][1]. وعلى ذات المسار الفكري لجون لوك، سار الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو [1755 ـ 1689] محددا (المجتمع المدني) بأنه "البنى الوسيطة بين الحاكم والمجتمع"[iii][2]، ولكن مع فردريك هيجل بات (المجتمع المدني) يمثل لحظة من التطور في المجتمع الأوروبي تقع بين الأسرة والدولة[iii][3]، أي أن (المجتمع المدني) كما حدده هيجل هو عبارة عن "مرحلة بين الرابطة الأسرية القائمة على القرابة والتبعية المباشرة وبين الدولة الممثلة للمصلحة العامة"[iii][4]. وتأكيداً لما قرره فردريك هيجل، يسوق الدكتور محمد عابد الجابري في معرض تتبعه لتاريخ مفهوم (المجتمع المدني) في الثقافة الأوربية ما يفيد بأن ظهوره محملاً بهذه المعاني قد أتى كاستجابة طبيعية لثلاث اعتبارات مركزية هي كالتالي: "باعتباره البديل لسلطة الكنيسة على المجتمع من جهة، والبديل لسلطة الدولة الإمبراطورية التي قوامها ثنائية الراعي- الرعية من جهة ثانية، والبديل لهيمنة الأسرة التي تتمثل في الأب الذي يتحول في النظام البطريركي إلى شيخ قبيلة من جهة ثالثة"[iii][5]. فمفهوم (المجتمع المدني) قد ارتبط عضوياً بالتطور الذي شهده المجتمع الأوربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في ميادين التجارة والصناعة والعلم، وبالتالي الاجتماع والسياسة. في ظل هذه التطورات، لم تصمد الكنيسة ومنظومتها الفكرية في وجه زحف التيار العقلاني ربيب فكر الأنوار، وتفككت العائلة بفعل الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي البرجوازي، وحلت محلها الشركات والنقابات والجمعيات ، وهيمنت التجارة ومنطقها ، فتعززت الفردية من جهة ، وساد التبادل والاعتماد المتبادل الذي تؤسسه المصلحة الخاصة من جهة ثانية. وجماع هذه التطورات هي مضمون مصطلح (المجتمع المدني)[iii][6].

مضامين متعددة لمفهوم واحد !
إذا أردنا إعطاء تعريف مبسط لمفهوم (المجتمع المدني) سنقول بأنه "نوع من الحياة الاجتماعية والاقتصادية بمعزل عن وصاية وهيمنة الدولة المباشرة"[iii][7]. أما قاموس أكسفورد الوجيز فيعرِّف (المجتمع المدني) بأنه "مجموعة من الروابط (التجمعات) الوسيطة التي تقع بين الدولة والأسرة الممتدة، والتي يقوم الارتباط فيها على الإنتماء الطوعي"[iii][8]. ولعل القارئ يلمس اشتقاق تعريف (المجتمع المدني) في قاموس أكسفورد الوجيز من التعريف الذي وضعه فردريك هيجل والذي يعد من أكثر التعاريف الرائجة والمعتمدة بين الباحثين. وهناك من الباحثين من ينطلق في تعريفه (للمجتمع المدني) من الصفات الذي حددها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك فيقول "للمجتمع المدني هياكل وتنظيمات تقوم في عملها ووظائفها وكذلك في علاقتها مع الآخرين على منظومة قيمية معينة أهمها الحرية المكفولة للجميع ، وقبول الآخر ، والتعددية والحوار ، والتسامح والتنافس السلمي. هذه القيم هدفها الحدّ من تعاظم النزعة التسلطية للدولة"[iii][9]. ومصطلح (المجتمع المدني) له مرادفات عديدة في الخطاب العربي، منها على سبيل المثال لا الحصر: (المجتمع الأهلي)، (المجتمع المدني الأهلي)، (تجمعات المجتمع المدني الأهلية)، ... إلخ. وقد قام أحد الباحثين بتفكيك أحد هذه المرادفات وهو مصطلح (تجمعات المجتمع المدني الأهلية) فوجده تركيبا يقوم على ثلاثة مفاهيم " أولاً: تجمعات ، أي تكتلات كالجماعات والنقابات ، والجمعيات والروابط والمنتديات. ثانياً: أنها مدنية ، أي ليست تكتلات قبلية أو عنصرية ، تعتمد على علاقات القرابة والنسب ، ولا تكتلات إقليمية ، تعتمد على علاقات المجاورة في الحارة والمساكنة في القرية ، وإنما هي تكتلات تعتمد على التخصص والعمل ، أو الرؤية الاجتماعية والسياسية والثقافية. ثالثاً: أنها أهلية ، أي غير الرسمية/ غير الحكومية ، وقد استقرت كلمة الأهلي ـ في اللغة العربية المعاصرة ـ بهذا المعنى ، وكانت مصطلحاً رائجاً منذ بدايات عصر النهضة ، للتعبير عن تكتلات المجتمع المدني ، ووصف تكتلات المجتمع المدني بالأهلية لا يحدد وظيفتها بأنها غير مدنية، ولا بأنها حداثية أو تقليدية، ولكنه يحدد طبيعتها بأنها غير رسمية ، وهو ما يجنبنا من الإضطراب"[iii][10].

وحتى لا يتشتت القارئ بين هذا الكم من التعريفات، يمكننا أن نجمل القول بأن للمجتمع المدني خاصيتين واضحتين هما، الإستقلالية والتنظيمية. أما الأولى، الإستقلالية، فارتباطها بالمفهوم هو ارتباط عضوي ثابت، أي أنه يستحيل تجريد المفهوم منها، فلابد للمجتمع المدني أن يستقل عن الدولة وعن أي مؤسسة شمولية. أما الثانية، التنظيمية، فارتباطها بالمفهوم هو ارتباط ظرفي، بمعنى أنها صيغة تُنظم المجتمع، أو قالب تنظيمي يطرأ مع بلوغ مجتمع ما من المجتمعات درجة معينة من التعقيد في كافة علاقاته، وهذه الصيغة تستجيب للمرجعية المعتمدة في المجتمع دون أن تتحيز لأيديولوجية أو شكلية معينة.

ظهور التداول العربي للمفهوم؟
من الصعب تحديد بداية ظهور مفهوم (المجتمع المدني) في التداول العربي الحديث، بيد أن تطور الدولة المركزية القطرية في العالم العربي قد وصل إلى مرحلة أضحت فيها الدولة القطرية متسيدة ، بل ومحتكرة لكافة مناحي الحياة. فالدولة في العالم العربي تحتكر زمام المبادرة في جميع المجالات الحياتية، ولها القدرة على التأثير ، سلباً أو إيجابأ، في جميع هذه المجالات. هذا الدور الدولتي المتعاظم أدى إلى إعاقة آليات المحاسبة والمشاركة السياسية والاجتماعية من التشكل، وفي بعض الأحيان، إلى إبطاء عملية الانتقال الديمقراطي في بعض الأقطار العربية. لذلك سعت النخب العربية إلى طرح بعض المفاهيم المستوحاة من الفكر الغربي ، ومفهوم المجتمع المدني أحدها، والتي من شأنها إعادة الاعتبار والحيوية للمجتمع في المشاركة والمحاسبة والتطوير. أضف إلى ذلك أن أدواراً أخرى كان لها فضل في ظهور الوعي بمفهوم (المجتمع المدني)، كانتشار التعليم الحديث ،الأساسي والعالي، على نطاق واسع؛ والاحتكاك بالغرب من خلال التعليم، والتواصل الثقافي معه ؛ وارتباط المصالح العربية/الغربية. في ضوء هذه المعطيات، تولّدت نخب قادرة على التواصل والتفاعل مع العالم الغربي في شتى المناحي البيروقراطية والثقافية والتعليمية. والأهم من ذلك هو أن تعاظم أدوار تلك النخب "الحداثية" ومشاركتها في التطوير والتحديث قد قلص من أدوار النخب التقليدية (شيخ القبيلة، عالم الدين، رئيس الطائفة، ...، إلخ) بصورة لم تعهدها المجتمعات العربية من قبل.
إن ثمة إغراء يجعلنا نسارع لربط هذه الظواهر الاجتماعية الإنسانية شرقا وغربا ببعضها البعض، وذلك من أجل تبسيط فهمها، أو بتعبير الدكتور محمد عابد الجابري، يجعلنا نطابق بين "الاعتبارات المذكورة التي تحدَّدَ بها هذا المفهوم في أوروبا النهضة والأنوار ، وبين الاعتبارات التي تحدده الآن في العالم العربي ... ذلك أن مفهوم المجتمع المدني يعني في تصور النخبة التي ترفعه شعاراً: البديل من المجتمع الذي تهيمن فيه أفكار وتطلعات (رجال الدين) من جهة، والبديل من سلطة الدولة الاستبدادية الشمولية من جهة ثانية، والبديل من النظام القبلي والمجتمع الطائفي الذي تكون فيه الكلمة العليا لشيخ القبيلة أو رئيس الطائفة من جهة ثالثة. غير أن هذه المطابقة سرعان ما يتبين خطأها وخطرها عندما نتنبه إلى ثلاثة أمور: الأول أن كلام المفكرين في أوروبا النهضة والأنوار عن (المجتمع المدني) كان يخص مجتمعات كانت تنتقل فعلاً من المجتمع الزراعي الإقطاعي إلى المجتمع الصناعي الحداثي. والثاني أنه كان جزءاً من سياق تطور تاريخي كان يخضع بكامله للمعطيات الداخلية الذاتية الخاصة بهذا المجتمع الأوروبي أو ذاك، أعني بذلك غياب التأثير السلبي لأي عامل خارجي. والثالث أن كثيرا من المشاكل الداخلية ، الاقتصادية منها والاجتماعية ، التي كان يعانيها المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت ، قد أمكن تجاوزها بفضل التوسع الاستعماري: الهجرة إلى المستعمرات ، موادها الأولية ، عائدات أسواقها ... إلخ. وهذه أمور غائبة تماما بالنسبة إلى العالم العربي الراهن"[iii][11]. إلا أنه بالإضافة إلى خطورة المطابقة التي تحجب الرؤية الموضوعية تماماً (والخطورة التي يتحدث عنها الدكتور الجابري في الإقتباس السابق هي خطورة المطابقة لا خطورة التشابه) تكمن خطورة أخرى وهي نفي الظروف الداخلية الملحة، وإعطاء ذريعة للانطباع الخاطئ القائل بعدم حاجتنا إلى التدافع الفكري والاستفادة من المفاهيم الغربية الناتجة عن فكر النهضة والأنوار الأوروبي!

الموقف الإسلامي من المجتمع المدني: تنافر أم تواؤم!
يُعتبر مفهوم (المجتمع المدني) من المفاهيم الإشكالية في الخطاب الإسلامي بكافة تموجاته. لذلك من الصعب أن نعثر على مقاربة واضحة، ناهيك عن نظرية إسلامية متكاملة عن المجتمع المدني! وغالبا ما يدور الجدل حول المفهوم بين معارضٍ يرى في نشأته وتاريخه ومضمونه الغربي سبباً لنبذه ، وبين مؤيدٍ يحاول توفيق مضمونه بما يتلاءم مع الإسلام ذاته ، أو مع التجربة الإسلامية التاريخية. ومن نافل القول أن أدبيات التوجه الثاني، الساعي إلى التبيئة والتوفيق، تتجاوز بكثير أدبيات التوجه الأول ،الممانع، الذي يرى في مفهوم (المجتمع المدني) مصادمة صريحة للإسلام[iii][12]، وأنه غالباً ما يشكّل بوابة عبور إلى الدولة العلمانية[iii][13]. أحد دعاة التوجه الثاني وهو الدكتور أبوبكر باقادر يرى بأن "جذور المجتمع المدني ، كما هو حالة استقلال أو توازن مع الدولة ، موجودة بكثافة في العمق التاريخي للوعي العربي". ويؤكد هذا القول تحليل وجيه كوثراني الذي يرى أن ثمة قوى أدت أدواراً مهمة في إنعاش مفهوم (المجتمع المدني) بالمفهوم الهيجلي (أنظر تعريف هيجل للمجتمع المدني في فقرة "نشأة المفهوم"). هذه القوى تتمثل في ثلاث منظومات أسماها: "أولا ، الدولة/ الشريعة/ العصبية/ الملة. ثانياً ، التنظيم الحرفي/ الطرق الصوفية/ الأسواق والحارات أو فعاليات المدينة الإسلامية. ثالثاً ، الوقف والخدمات الاجتماعية والعملية"[iii][14]. بيد أن الدكتور أبو بكر باقادر ينقد على الفكر الإسلامي التقليدي تركيزه الأساسي على مسألة الدولة، وتكريس مجهوده في ترسيخ مركزيتها بهدف الحد من من انتشار الفتن والفوضى التي كانت قدر المجتمعات الإسلامية في مراحل عديدة من تاريخها السياسي الطويل[iii][15]. وفيما يتعلق بعدم شيوع المفهوم في الثقافة الإسلامية، وضرورة خلق الظروف الموضوعية التي تساعد على تشكله، يقول الدكتور عبدالله الحامد " إن عدم شيوع المفهوم ولا تحديد عناصره وعدم ظهور تكتلاته ، في أنماط راسخة في الأعراف الاجتماعية ، لا يعني أن الإسلام لم يتبن مبادئ المفهوم ، فضلاً عن أن يتصور أن المفهوم لا ينسجم مع العقيدة الإسلامية. فقيم المجتمع المدني كحقوق الإنسان والديمقراطية ، والحرية ، والعدالة والمساواة وأطرها السياسية: كالدستور والفصل بين السلطات الثلاث ، واستقلال القضاء ، مجموعة مفاهيم أنتجها الغرب ، ولكنها مفاهيم إنسانية ، موجودة الجذور في أي ثقافة ذات حضارة ، ويمكن اليوم لأي ثقافة أن تستدخل المصطلحات الغربية ضمن منظومتها ، وأن تزيد فيها وتعدل وتصهر وتفرز ، حتى تتناسب مع خصوصيتها"[iii][16]. يعزز قول الدكتور الحامد في بعض جوانبه رأي المفكر والرئيس السابق للجمهورية الإيرانية محمد خاتمي إذ يقول "إن عصرنا الحالي هو عصر، هيمنة الحضارة الغربية التي لا مفر من قراءتها قراءة فاعلة تجتاز المظاهر والظواهر وتتوغل في المبادئ النظرية والأسس القيمية لتلك الحضارة، وهذه المعرفة ضرورية على الرغم من إن المحور في المجتمع المدني الذي نطمح إليه هما الفكر والثقافة الاسلامية، إلا أن هذا المجتمع يجب أن يكون خالياً من الاستبداد الفردي والجماعي، بل وبعيداً حتى عن ديكتاتورية الأكثرية .... مجتمعنا المدني، ليس ذلك المجتمع الذي يكون فيه المسلمون وحدهم أصحاب الحق ومواطني النظام، بل هو المجتمع الذي يكون فيه كل انسان يؤمن بالنظام والقانون هو صاحب حق"[iii][17].

يبدو جلياً من هذه الاقتباسات أن الفكر الإسلامي الساعي إلى التبيئة والتوفيق يعي ضرورة (المجتمع المدني) في مستقبل التنمية السياسية والاجتماعية في الأوطان العربية والإسلامية. ولكن لو تأملنا حال الاجتهاد الإسلامي لوجدنا اعتماده الرئيس على آلية تنزيل المفاهيم السياسية والاجتماعية مثل الديمقراطية، والأحزاب السياسية، واستقلال السلطات الثلاث، والمجتمع المدني، على مبدأ (الشورى) الإسلامي. وليس ثمة شك بأن أغلب تلك المفاهيم الحديثة تجسد مبدأ "الشورى" بشكل أو بآخر. وبالتالي يجد الفكر الإسلامي في مفهوم (الشورى)، الرحب والمرن، نقطة انطلاق رئيسية تسهل عليه عملية تأصيل تلك المفاهيم الغربية ضمن المنظومة الإسلامية. إلا أن رد جميع المفاهيم والنظريات الاجتماعية والسياسية الحديثة إلى مبدأ (الشورى) يكشف عن عجز الفكر الإسلامي عن إبداع نظريات إسلامية معاصرة لإشكاليات الدولة والمجتمع في الوقت الراهن. وهنا، سأتوقف، وأدعو القارئ الكريم إلى التأمل معي: لا يكف الفكر الإسلامي عن نبذ التبعية للفكر الغربي، وربط التخلف الحضاري العربي والإسلامي بها، ولكن، ألا يسوغ لنا القول بأن الفكر الإسلامي يكرس تلك التبعية ـ دون أن يشعرـ بعجزه عن إبداع نظريات ومفاهيم تستجيب لحجم التعقيد المحيط بالفضاء السياسي والاجتماعي المعاصر؟ ونحن هنا لا ننفي محورية مبدأ (الشورى) في الفكر الإسلامي، وإنما نحاول الكشف عن مدى عجز الفكر الإسلامي عن استنبات الآليات المساعدة والمجسدة لمبدأ الشورى، وذلك يقود إلى حتمية استيراد الحلول من الفكر الغربي!

عوائق بنيوية أمام التحول الحضاري!
يتحدث الكثير من الباحثين عن العوائق البنيوية التي تعتري مسار (المجتمع المدني)، وتتراوح تلك العوائق بين أشكال شتى، قانونية/سياسية، اجتماعية/فكرية، واقتصادية. أما فيما يتعلق بالبنية القانونية المنظمة لتجمعات المجتمع المدني، ولحريات الأفراد والمؤسسات داخله، فما تزال أغلب الأقطار العربية تراوح بين جدلية "فقدان" منظومة القوانين الوضعية المتعلقة بتنظيم حركة (المجتمع المدني)، وبين "تقييد" منظومة القوانين، على افتراض وجودها ابتداءاً، ووضعها تحت الرقابة الصارمة للمؤسسات الأمنية. أضف إلى المعطى القانوني السياسي معطىً آخر يتحدد في الجانب الفكري الاجتماعي، فالمجتمع المدني في ضوء الممارسة الحالية في الوطن العربي يعاني من إشكالية عدم حسم مسألة التعددية الاجتماعية والسياسية. فثمة استقطاب يطال مفهوم (المجتمع المدني) يتجلى في سعي النخب العربية ـ المحافظة والحداثية ـ إلى الاستحواذ على مفهوم (المجتمع المدني) وحصره على توجه أيديولوجي دون آخر، وتطويعه بطريقة تجعله فاقداً لفاعليته واستقلاليته. وإذا لم تحسم إشكالية التعددية الاجتماعية والسياسية ـ على مستوى النظرية والتطبيق ـ فلن نستطيع كمجتمعات عربية إسلامية من تمهيد الطريق للمجتمع المدني لمراكمة جهوده ، ولن نستطيع أيضاً من إتاحة الفرصة العادلة أمام مؤسساته من تطوير صيغة تتلاءم مع خصوصية الوضع العربي الإسلامي. ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أن تنامي الوعي الاجتماعي يشكل دعامة أساسية من دعائم (المجتمع المدني)، إذ إن العامل الحاسم في تكوين مؤسسات (المجتمع المدني) وتجذرها، هو روح المبادرة لدى المواطنين، والرغبة في الاعتماد على النفس ، بدلاً من الاتكال على الدولة ومؤسساتها الرسمية. إن تنظيمات (المجتمع المدني) في العالم الغربي تتمتع بهامش كبير من النضج والحيوية، إذا ما قورنت مع مثيلاتها في العالم العربي ، وذلك يجعلها في موقع أقدر على مقاومة ضغوط الدولة الرقابية[iii][18]. أما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، فإن نوع الاقتصاد السائد في الأقطار العربية يسيطر عليه قطاعان لا يساعدان على إيجاد ذلك النوع من الاقتصاد الذي تهيمن فيه المؤسسة المستقلة عن الدولة، التي هي الأساس الذي يقوم عليه (المجتمع المدني) ومؤسساته السياسية والثقافية. هذان القطاعان هما: "أسلوب الإنتاج الزراعي غير المصنع، الذي يكرس هيمنة الطابع البدوي القروي في المجتمع، الطابع المناقض بنوع مؤسساته وتقاليده والعقلية السائدة فيه لخصائص (المجتمع المدني)"[iii][19]. و القطاع الثاني هو: "الريع وما في معناه ، أعني الدخل الذي يأتي الدولة ، لا من مسلسل عملية الإنتاج في داخل البلد ، بل من عائدات النفط والعمال المهاجرين والاستغلال لهذا الموقع الاستراتيجي أو ذاك ، والهبات والقروض وعائدات السياحة .... الخ. هذا النوع من الدخل الذي يشكل العنصر الأساسي في اقتصاديات جل الأقطار العربية في الظرف الراهن يقع تحت تصرف الدولة ، أي تحت تصرف الطبقة المسيرة ، تنفق منه في حماية نفسها وتعزيز سلطتها وتقوية أجهزتها ، مما يجعلها مستقلة كلياً ، أو إلى حد كبير ، عن دافعي الضرائب (الذين كانت مطالبتهم في أوروبا بحقهم في مراقبة طريقة صرف الحاكم لأموال الضرائب هي الأصل في الديموقراطية الحديثة). والدولة في العالم العربي تمول بفضل الطابع الريعي للاقتصاد ، وبالطريقة التي تريد ، المشروعات العامة والخدمات الاجتماعية ، فضلاً عن أجور الموظفين ودعم المواد الغذائية ، مما يجعل يدها هي العليا في كل مجال ، عليها تتوقف حياة الأفراد والمؤسسات ، ولا تتوقف هي على أية قوة اقتصادية مستقلة عنها"[iii][20].

إن الموجة الإصلاحية التي تعصف بالأقطار العربية في شتى المجالات الحياتية لا يمكن التنبؤ بمدى جدواها أو فعاليتها في المدى المنظور، ولكن ما يدعو إلى الأمل والترقب هو أن رياح الإصلاح قد أحدثت نقلة كمية ونوعية ملموسة في سقف المطالب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فالحديث عن المجتمع المدني، وتوسيع المشاركة السياسية، والشفافية، والحريات العامة، وتحرير الاقتصاد الوطني، ... إلخ، الذي كان الاقتراب منه في السابق يؤدي بصاحبه إلى العنت والنبذ الاجتماعي والسياسي، أضحى اليوم من المفردات الدارجة على ألسنة الناس. هذه الأحاديث التي تجري في أوساط النخب، وما يصاحبها من جدل يشارك فيه الرأي العام ، ستؤدي بلا شك ، إلى زيادة هامش الوعي بحجم التحديات المطروحة، وسبل تحقيقها. فالمجتمعات العربية تخوض عملية تحول حضارية كبرى، أو برأي الدكتور محمد عابد الجابري "تشهد عملية انتقال من حضارة البادية والقرية وعقليتها وسلوكها ، فضلاً عن اقتصادها، إلى حضارة المدينة التي تهيمن فيها الصناعة والتجارة والخدمات العامة ، من مجتمع المؤسسة الطبيعية (القبيلة وما في معناها) إلى مجتمع المؤسسة العقلانية"[iii][21].
الهوامش:[iii][1]خلدون حسن النقيب، آراء في فقه التخلف: العرب والغرب في عصر العولمة. (بيروت: دار الساقي، 2002) ، ص18
[iii][2] 31أبو بلال عبدالله الحامد ، ثلاثية المجتمع المدني: عن سر نجاح الغرب وإخفاقنا. (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2004) ، ص
[iii][3] محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص178
[iii][4] أبوبكر أحمد باقادر، الاسلام والانثروبولوجيا. (بيروت: دار الهادي، 2004) ، ص162
[iii][5]178 محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص
[iii][6]173 محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص
[iii][7]163 أبوبكر أحمد باقادر، الاسلام والانثروبولوجيا. (بيروت: دار الهادي، 2004) ، ص
[iii][8] Iain Mclean and Alistair McMillan, Oxford Concise Dictionary of Politics. (New York: Oxford University Press, 2004)
[iii][9] Sohail H. Hahmi, Islamic Political Ethics: Civil Society, Pluralism, and Conflict. (New Jersey: Princeton University Press, 2002) , p.3
[iii][10] أبو بلال عبدالله الحامد ، ثلاثية المجتمع المدني: عن سر نجاح الغرب وإخفاقنا. (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2004) ، ص16
[iii][11] محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص179
[iii][12] http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/16.htm سليمان صالح الخراشي، “المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب اللحى الليبرالية.
[iii][13] http://www.saadalbreik.com/modules.php?name=News&file=article&sid=138سعد البريك ، الدولة المدنية.
[iii][14] أبوبكر أحمد باقادر، الاسلام والانثروبولوجيا. (بيروت: دار الهادي، 2004) ، ص168
[iii][15] أبوبكر أحمد باقادر، الاسلام والانثروبولوجيا. (بيروت: دار الهادي، 2004) ، ص170
[iii][16] أبو بلال عبدالله الحامد ، ثلاثية المجتمع المدني: عن سر نجاح الغرب وإخفاقنا. (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2004) ، ص19
[iii][17] http://www.balagh.com/mosoa/tablg/sj0y0e41.htm محمد خاتمي ، المجتمع المدني الإسلامي.
[iii][18] خلدون حسن النقيب ، آراء في فقه التخلف: العرب والغرب في عصر العولمة. (بيروت: دار الساقي، 2002) ، ص23
[iii][19] محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص193
[iii][20] محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص193
[iii][21] محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص198




















ليست هناك تعليقات: