الاثنين، 15 سبتمبر 2008

المشاركة السياسية


المشاركة السياسية في أي مجتمع هي محصلة نهائية لجملة من العوامل الاجتماعية الاقتصادية والمعرفية والثقافية والسياسية والأخلاقية؛ تتضافر في تحديد بنية المجتمع المعني ونظامه السياسي وسماتهما وآليات اشتغالهما، وتحدد نمط العلاقات الاجتماعية والسياسية ومدى توافقها مع مبدأ المشاركة الذي بات معلماً رئيساً من معالم المجتمعات المدنية الحديثة، المجتمعات التي أعاد العمل الصناعي وتقدم العلوم والتقانة والمعرفة الموضوعية والثقافة الحديثة بناء حياتها العامة وعلاقاتها الداخلية، على أساس العمل الخلاق، والمبادرة الحرة، والمنفعة والجدوى والإنجاز، وحكم القانون، في إطار دولة وطنية حديثة، هي تجريد عمومية المجتمع وشكله السياسي وتحديده الذاتي.


بعبارة أخرى، المشاركة السياسية مبدأ ديمقراطي من أهم مبادئ الدولة الوطنية الحديثة؛ مبدأ يمكننا أن نميز في ضوئه الأنطمة الوطنية الديمقراطية التي تقوم على المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، من الأنظمة الاستبدادية، الشمولية أو التسلطية التي تقوم على الاحتكار. مبدأ يقيم فرقاً نوعياً بين نظام وطني ديمقراطي قوامه الوحدة الوطنية، وحدة الاختلاف والتنوع والتعارض الجدلي، ونظام شمولي أو تسلطي قوامه التحاجز الاجتماعي والحرب الأهلية الكامنة التي يمكن أن تنفجر عنفاً عارياً وتدميراً ذاتياً في أي وقت. مبدأ سياسي وأخلاقي يقيم فرقاً نوعياً بين الحرية والاستبداد.

ويمكن القول إن المشاركة السياسية هي التعبير العملي عن العقد الاجتماعي الطوعي، لا في مفهومه فحسب، بل في واقعه العملي أيضاً، إذ تعيد المشاركة السياسية إنتاج العقد الاجتماعي وتؤكده كل يوم؛ أي إنها تعيد إنتاج الوحدة الوطنية وتعزها كل يوم، وهذه أي الوحدة الوطنية من أهم منجزات الحداثة، ولا سيما الاعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف الفئات الاجتماعية وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي على الصعيدين المادي والروحي، نعني الإنتاج والاستهلاك والتوزيع والتبادل. وهي، من ثم، تعبير عملي عن المواطنة، أي عن صيرورة الفرد، من الجنسين بالتساوي، عضواً في الدولة الوطنية متساوياً، بفضل هذه العضوية، مع سائر أفراد المجتمع وأعضاء الدولة في جميع الحقوق المدنية والحريات الأساسية. ويمكن القول إن المشاركة السياسية هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية، وهي التي تحدد الفارق النوعي بين الرعايا والمواطنين وبين الامتيازات والحقوق. ذوو الامتيازات، في كل عصر وفي كل نظام، لم يكونوا مواطنين، بل رعايا. وذوو الامتيازات اليوم ليسوا مواطنين، بل هم رعايا وموالون وعبيد، فمن يظن نفسه سيداً على جماعة من العبيد هو أكثر منهم عبودية. وذوو الاميتيازات اليوم ليسوا وطنيين، لأن الوطنية تتنافى مع الامتيازات على طول الخط. والنظام الذي يقوم على الامتيازات وتسلسل الولاءات ليس نظاماً وطنياً بأي معنى من المعاني. الوطنية هنا مرادفة لكلية المجتمع وعمومية الدولة وسيادة الشعب، وليست حكم قيمة أو صفة أخلاقية. المواطنون فقط هم ذوو الحقوق المدنية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي يعترف بها الجميع للجميع بحكم العقد الاجتماعي، ويصونها القانون الذي يعبر عن هذا العقد.

وثمة علاقة لا تخفى بين الحق والحرية، إذ يتجسدان معاً في الملكية شكلاً ومضموناً[1]؛ فلا تنفصل حقوق الفرد في مجتمع من المجتمعات عن حريته. وكلما انتُقصت حقوق الفرد انتُقصت حريته، والعكس صحيح. لذلك ينبغي البحث في حرية المرأة ومدى مشاركتها في الحياة العامة من خلال ما نالته من الحقوق، والبحث في حقوق المرأة من خلال ما تتمتع به من حرية. وأيٌّ من الحق والحرية يصلح أن يكون أساساً للتفكير في المشاركة السياسية، بما هي الوسيلة السلمية للتعبير عن المصالح المشروعة لهذه الفئة الاجتماعية أو تلك.

الفرد، من الجنسين، هو الأساس الطبيعي للمجتمع المدني، و المواطن، من الجنسين أيضاً، هو الأساس السياسي، المدني، للدولة الحديثة، الدولة الوطنية / القومية؛ لذلك يبدو لزاماً على من يبحث في موضوع المشاركة السياسية أن يدرس مدى تحرر الأفراد من الروابط الطبيعية، أو الروابط الأولية، روابط الجماعات ما قبل الوطنية وما دون الوطنية، كالعائلة الممتدة والعشيرة والطائفة والجماعة العرقية وما إليها، مما يؤلف عوالم (جمع عالَم) المجتمع التقليدي وكسوره المتناثرة والمتحاجزة، أي التي تعيش داخل أسوارها، وتقيم فيما بينها حواجز عشائرية أو عرقية أو دينية أو مذهبية، وتكتسي لديها السياسة طابعاً دينياً، إيمانياً ودوغمائياً، ويكتسي الدين طابعاً سياسياً، تبريرياً وذرائعياً.

ولعل حضور المقدس، الذي حدد وضعية الفرد بوجه عام ووضعية المرأة بوجه خاص، في "مجتمعات الكتاب"[2]، ومنها المجتمع السوري، حضوراً طاغياً في الحياة الاجتماعية والسياسية، ولا سيما في مجال السلطة، مرتبط أوثق ارتباط وأشده بسيادة العلاقات والروابط الطبيعية، روابط الدم والنسب والعقيدة، بين الأفراد والجماعات من جهة، وبشدة التبعية للطبيعة وآلام الاستقلال عنها ومحاولة السيطرة عليها من جهة أخرى[3]. فبقدر ما ترتدي السلطة طابع القداسة، الناجم عن تحوير مصدرها، ترتدي العلاقات الاجتماعية والسياسية طابعاً أبويا (بطريركياً) تجعل من الفرد كائناً امتثالياً عاجزاً ومتواكلاً ومعجباً بالورود التي تخفي قيوده، وتغل عقله ويديه. بل إن سيادة العلاقات الطبيعية والروابط الأولية هي التي تفسر قداسة السلطة، سواء كان التعبير عن هذه القداسة مباشراً، كما كان في العصور القديمة والوسطى، أو غير مباشر، كما هي حال المجتمعات المتأخرة في الأزمنة الحديثة، المجتمعات التي لا تزال تقدِّس الحاكم وتسبغ عليه جميع صفات الآلهة، فتغلب لديها عبادة "الأب القائد" على عبادة الإله الواحد. ورائز ذلك في كل زمان ومكان هو مدى انعتاق الفرد من براثن التقليد، ومقدار العمل البشري الخلاَّق في عمليات تغيير أشكال الطبيعة وإنتاج الثروات المادية والروحية، بالتلازم الضروري، ونسبته إلى العناصر الطبيعية.

ومن ثم، فإن المشاركة السياسية، مشروطة بالانتقال من "الجماعة الطبيعية" إلى الجماعة المدنية، من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، مجتمع الشغل والإنتاج والمصالح المختلفة والمتباينة والتنافس الخلاق والاعتماد المتبادل، أي إنها مرتبطة بالاندماج الوطني أو الاندماج القومي والانتقال من التشظي والتناثر إلى الوحدة، وحدة الاختلاف، ومن الملة إلى الأمة، بالمعنى الحديث للكلمة، وهو غير المعنى المتداول في الخطاب الثقافي والسياسي العربي حتى اليوم، والانتقال من ثم من وضعية ما قبل الدولة الوطنية إلى الدولة الوطنية بثلاثة أركانها: الأرض (الوطن) والشعب والسلطة السياسية[4].

وللاندماج الوطني، كما هو معلوم عاملان أساسيان: أولهما العمل والإنتاج الاجتماعي، أي قدرة المجتمع على إنتاج حياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية وإعادة إنتاجها بحرية، والثاني هو الدولة السياسية أو الدولة الوطنية التي يتساوى في عضويتها جميع أفراد المجتمع، بلا استثناء ولا تمييز. فليس بوسع العمل، مجرداً ومشخصاً، أن ينظر إلى الفرد إلا بوصفه منتجاً للقيمة، بغض النظر عن الجنس والدين والانتماء العرقي وسائر التحديدات الذاتية الأخرى، وليس بوسع الدولة بما هي تجريد العمومية أن تنظر إلى الفرد وأن تتعامل معه إلا بصفته مواطناً؛[5] بهذين العاملين: العمل والدولة[6]، تتنحى عن علاقات العمل، وعن العلاقات السياسية خاصة، جميع تحديدات الأفراد ومحمولاتهم، سوى القدرة والمهارة والكفاية العلمية، على صعيد العمل، والتزام القانون والوفاء بالالتزامات والمسؤوليات التي تلقيها المواطنة على عاتق الفرد، على صعيد الدولة. ولعل تمييز عمل النساء من عمل الرجال، وتفاوت الأجور بينهما، لقاء الأعمال المتساوية، كان في بدايات الثورة الديمقراطية امتداداً لنظرة المجتمعات التقليدية الآخذة في النمو والتقدم إلى المرأة وإلى الطفل أيضاً، ولم يكن ناجماً عن طبيعة العمل، خالق القيمة وجميع القيم، وخالق السياسة والمشاركة السياسية.

ومن البديهي أن المشاركة السياسية، في زمان ومكان محددين، تتوقف على معنى السياسة وقيمتها ومدى حيويتها وعقلانيتها، في المجتمع المعني، أي على نحو ما تفهمها مختلف الفئات الاجتماعية، وعلى القيمة التي تمنحها لها هذه الفئات، وعلى مدى إدراجها في تحديد ذواتها، لا على نحو ما تفهما وتعقلها النخبة فقط. والفرق بين هذين المستويين أشبه ما يكون بـ "فرق الكمون" الذي يولد الطاقة والحركة. فحين يكون الأمر مقصوراً على نخبة لا تزال حداثتها وعقلانيتها موضع شك تغدو أفضل المبادئ والنماذج النظرية بلا قيمة عملية. ومن ثم، فإن عنصر التحديد الحاسم هو النظر إلى السياسية، إما على أنها شأن عام، وصفة ملازمة للمواطنة، أي على أنها علم إدارة الشؤون العامة بوصفها علاقات موضوعية، أو "علم الدولة"؛ وإما على أنها شأن من شؤون النخبة، وجملة من الأهداف والمطالب والتطلعات والرغبات الذاتية، وهو المعنى الغالب على السياسة في بلادنا حتى اليوم، إذا صرفنا النظر، هنا فقط، عن مقاصدها الأساسية التي كشفت عنها الدراسات الأنتروبولوجية والتاريخية، أعني "الغنيمة والعشيرة والعقيدة"، بتعبير الجابري[7].

وتجدر الملاحظة أن مفهوم المشاركة السياسية مفهوم حديث، وافد على الثقافة العربية، وعلى الفكر السياسي خاصة، ولم يتبياً بعد، ولم يستوطن؛ أي إن الثقافة العربية لم تتمثل هذا المفهوم وما يتصل به من المفاهيم الحديثة، وتعيد إنتاجها وفق معطيات الواقع وحاجات المجتمع. بل إن جل ما فعلته، حتى يومنا، هو غمس هذه المفاهيم في مستنقع التقليد، ومحاولة تكييفها مع "التراث"، أو إعادة إنتاجها فيه، بحسب ما يرغب محمد عابد الجابري وغيره من التراثويين، من دون أن تدرك أنها تعزز التقليد، وتحد من القدرة التنويرية والتحريرية والتوليدية والإجرائية لهذه المفاهيم، إن لم تخصها.

بوجيز القول، لا يمكن الحديث عن مشاركة سياسية إلا في نطاق مجتمع مدني حديث ودولة وطنية حديثة لا تبدو لمواطنيها من الداخل سوى بصفتها دولة حق وقانون، لا دولة حزب، ولا دولة نخبة ولا دولة طغمة ولا دولة عشيرة، ولا دولة طائفة أو جماعة دينية، ولا دولة جماعة عرقية[8]، وإلا فنحن إزاء بوادر وإرهاصات عسى أن تكون ذاهبة إلى المستقبل. لذلك يميل الكاتب إلى القول: ليس لدينا بعد سوى ضرب من مشاركة سياسية سلبية تتجلى في التأييد السلبي، أو القبول التام، وفي المعارضة السلبية أو الرفض التام، لا مشاركة سياسية إيجابية وخلاقة للجنسين على حد سواء. إذ للمشاركة السياسية الإيجابية رائزان: الأول هو مشروعية المعارضة وقانونيتها، والثاني هو مشاركة المرأة في الحياة السياسية على قدم المساواة مع الرجل.

الاستبداد المحدث القائم على تسلسل الولاءات وعلى الامتيازات، لا على الحقوق وحكم القانون، يساوي بين الرعايا في توزيع هداياه التي أهمها القمع و الخوف واليأس، ويساوي بين الأفراد من الجنسين على أنهم لا شيء، ولا يقبل بأي نوع من المعارضة، لا من داخل بنيته ولا من خارجها، لأنه يقوم على احتكار الحقيقة واحتكار الوطنية، وعلى الاحتكار الفعال لجميع مصادر السلطة والثروة والقوة. فالمعارضة في جميع النظم الاستبدادية، الشمولية منها والتسلطية مؤثمة ومكفرة ومخونة. والحيف الواقع على المرأة حيف مضاعف يجعل منها عبدة العبد ومستغَلة المستغَل (بفتح الغين)، وموضوعاً لقهر من هو موضوع للقهر والاضطهاد والذل، فقد كان الاستبداد على مر العصور ولا يزال إهانة للكرامة البشرية.

ومنذ صار تحرر المرأة ومشاركتها في الحياة العامة، ولا سيما في الحياة السياسية، رائزاً من روائز التحضر والتمدن والتقدم الاجتماعي، راح الكتاب والباحثون العرب ينبشون في ثنايا التاريخ البعيد والقريب، كعلماء الآثار، بحثاً عن نسوة شاركن في الغزوات والحروب أو في صدها، أو كانت لهن مجالس يؤمها الرجال، أو شاركن في مقاومة الاستعمار الحديث، ورفعن راية الحرية والاستقلال، أو كن من أعلام الثقافة والاستنارة قديماً وحديثاً، أو قدن مظاهرات احتجاج على تعسف المستعمرين، كتلك التي وصفها حافظ إبراهيم، في مصر، أو التي يتحدث عنها "أنصار المرأة" في سورية، وجعلوا من شجرة أو عدة شجيرات غابة، ومن زهرة أو عدة زهرات ربيعاً، فأنتجوا نوعاً من ثقافة افتخارية وتبريرية في آن؛ ولم يلتفتوا إلى حقيقة أن تلك الاستثناءات تؤكد القاعدة، أي تؤكد دونية المرأة واضطهادها وهامشيتها في المجتمع. ولم يدر في خلد أحدهم أن الجماعات البشرية تتراخى في التزام المعايير الاجتماعية، والأخلاقية منها خاصة، في أوقات الحروب والكوارث الطبيعية، فتشارك النساء كالرجال سواء بسواء في الدفاع عن الوجود فحسب، كما تتراخى المعايير كذلك في المراحل الانتقالية، وليس ذلك، في نظر الكاتب، من قبيل المشاركة السياسية، بمعناها الحديث، من قريب أو من بعيد؛ فإن التراخي في المعايير شيء واستقرار الحياة الاجتماعية والسياسية على التعاقد والمشاركة والتسامح واعتراف الجميع بحقوق الجميع وحرياتهم شيء آخر.

على أن التراخي في المعايير الذي يسم المراحل الانتقالية يمهد السبيل للتغيير الاجتماعي؛ بقدر ما تتوفر قوى التغيير على القوة والنفوذ والجذرية والمثابرة، وبقدر ما تعبر عن مصالح جذرية لمختلف الفئات الاجتماعية، ولو بدرجات متفاوتة، وبقدر ما تنفتح الثقافة على آفاق كونية وإنسانية وتقوم بوظيفتها التنويرية والتحريرية، وتنفتح التربية على معطيات الحداثة ومبادئها وقيمها ومناهجها.

تعيش سورية منذ خمس سنوات مرحلة انتقالية، أبرز سماتها ظهور نوع من معارضة جديدة خرجت في معظمها من البنى الأيديولوجية المتخشبة التي لا تزال تجثم على صدر الحياة السياسية، ولا تزال هذه المعارضة الوليدة تحمل كثيراً من رواسب تلك البنى. ويمكن القول إن في سورية اليوم معارضين مشوشي الوعي لم يتمكنوا بعد من التوافق على رؤية وطنية ديمقراطية عامة تنبع من حاجات المجتمع وضرورة الخروج من النظام الشمولي إلى نظام وطني ديمقراطي، فلا تزال الطريق طويلة حتى يتحولوا إلى حركة معارضة شعبية، مدنية وسلمية، كانتفاضة الأرز في لبنان أو حركة كفاية في مصر. ولعل مثل هذه الحركة هي صمام الأمان الممكن من انفجار المجتمع واضطراب الأمن وسيادة الفوضى.

ومعظم السوريين الذين كانوا يمانعون تعليم البنات، على سبيل المثال، انتقلوا من الممانعة إلى التحفظ، ثم إلى التسامح، ثم إلى الإقبال والحماسة، فتراجعت نسبة الأمية بين النساء بوتائر متسارعة، وصار الآباء يفاخرون ببناتهم المتفوقات والمؤهلات علمياً مفاخرتهم بأولادهم الذكور. وقل مثل ذلك في موقف المجتمع من عمل المرأة[9]. ولم يعد سفرها في سبيل التحصيل العلمي أو في سبيل العمل أمراً مستهجناً جداً. بل إن موقف المجتمع بدأ يتزحزح شيئاً فشيئاً من مشاركة المرأة في التمثيل والغناء والرقص وارتياد البلاجات والمسابح، ومن الزواج المدني في حدود ضيقة جداً، وصار للفتاة بعض الحرية في اختيار شريك حياتها، ولا يخلو الأمر من مد وجزر في جميع هذه الميادين. وهذا كله ناتج من تراخي المجتمع في التزام المعايير التقليدية، بحكم المرحلة الانتقالية التي تعيشها سورية، مرحلة الانتقال الصعب والمتعثر من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث.

ويمكن القول بثقة: إن المرأة السورية تتمتع اليوم بحق التعليم وحق العمل، قانونياً وعملياً، بغض النظر عن تدني معدلات الادخار والاستثمار وندرة فرص العمل وتنامي الفقر والبطالة. وهذان، حق العمل وحق التعليم، محرزان أساسيان وشرطان ضروريان لنيل بقية الحقوق، وشرطان ضروريان لمشاركتها في الحياة السياسية أيضاً. على أن حقوق المرأة لا تتجذَّر ولا تستقر إلا في كنف الحرية وبكفالة القانون، وإلا فإنها تظل سطحية وهشة وقابلة للانتكاس والتراجع، ولا تتحول إلى مهماز لتقدم المجتمع؛ فإن الإفقار المتزايد ومصادرة الحريات الأساسية، على نحو ما يجري في سورية، يجعل من هذه الحقوق المكتسبة شكلاً بلا مضمون، كالنظام السياسي ذاته. آية ذلك أن تعلم المرأة ومشاركتها في العمل على قدم المساواة مع الرجل لم يسفرا حتى اليوم عن أي تغيير أو تعديل يذكر في شرطها الاجتماعي والإنساني أو في القوانين التي تحط من إنسانيتها وتنتقص من أهليتها القانونية[10]، بل إن عمل المرأة، خاصة في الريف والبادية حيث تقوم بجميع الأعمال، يضيف أعباء جديدة إلى أعبائها وشقاء إلى شقائها، إلا في القليل والنادر مما يومئ إلى المستقبل.

الاعتراف المبدئي والنهائي بحق الاختلاف ومشروعية المعارضة السياسية التي تعبر عن المصالح الجذرية للفئات الاجتماعية المختلفة، وتمكين المرأة من المشاركة في الحياة العامة أسوة بالرجل رائزان أساسيان من روائز المشاركة السياسية، وشرطان ضروريان لحياة سياسية سليمة.
[1] - الحرية هي مضمون الملكية، والحق هو شكلها، والحديث هنا عن الحق بصفته العامة والمجردة، قبل أن يتفرع إلى حقوق مدنية وحقوق سياسية وغيرها، ويعبر عنه في صيغة دستور ومدونة قانونية. ولذلك علاقة وثيقة بمفهوم الإنتاج؛ إذ كل إنتاج هو تملك. الملكية هي الإرادة وقد صارت موضوعية. والتناقض الأساسي في الملكية هو التناقض الجدلي بين مضمونها العام وشكلها الخاص ، منذ ظهور الملكية الخاصة. ومن ثم فإن الحرية لا تصير عامة تشمل جميع مناحي الحياة وجميع الأفراد بالتساوي إلا حينما تصير الملكية عامة، بالمعنى الدقيق للكلمة. لذلك نتحدث عن حرية منقوصة باستمرار، سواء من حيث شمولها جميع الأفراد أو من حيث شمولها جميع مناحي الحياة. وهذا النقص هو أحد عوامل التقدم. وعلينا أن نتقبل هذا الوضع.

[2] - التعبير لمحمد أركون، ويقصد به المجتمعات التي لديها كتاب منزل.

[3] - منذ استقل الإنسان عن الطبيعة واستوى على عرش المعرفة والعمل، أو المعرفة/العمل، بستانياً للعالم، بدأ تاريخ ارتقائه على درب الآلام، لتملك العالم، واتخذ تاريخه صورة دراما ومأساة، كان نصيب النساء منها كبيراً.

[4] - لا أمل في إصلاح جدي ومشاركة سياسية في البلدان العربية ما لم يقم الفكر النظري بواجبه النقدي، فيعيد تعريف المفاهيم السياسية، كالوطن والوطنية والأمة والقومية والدولة والسياسة ... على أسس جديدة، ويسهم في إعادة بناء الوعي الاجتماعي، والوعي السياسي خاصة، وفق مبادئ الحرية والاستقلال في مواجهة التبعية والانقياد للخارج، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد والشمولية، والحداثة في مواجهة التقليد، والعلمانية في مواجهة التيوقراطية وحاكمية وزراء الله وممثليه على الأرض.

[5] - الفكر السياسي العربي والخيال السياسي العربي معاً لم يرقيا بعد إلى مستوى التجريد، فلا يستطيع المفكر العربي والسياسي العربي، سوى استثناءات قليلة، أن ينظر إلى الدولة على أنها تجريد عمومية المجتمع وتعبير عن كليته، وإلى المواطن على أنه تجريد الفرد الطبيعي، فلا يستطيع تصور فكرة أن الدولة هي دولة جميع المواطنين ومحايدة حياداً إيجابياً إزاء جميع محمولات الأفراد والجماعات، وإزاء العقائد والأيديولوجيات الدينية والعلمانية على السواء.

[6] - العمل والدولة مستويان متلازمان ومتداخلان في الحياة الحديثة، يتعلق أولهما بحياة الفرد الخاصة، في المجتمع المدني، ويتعلق الثاني بحياته العامة، في المجتمع السياسي؛ الأول هو ميدان الفردية والخصوصية، والثاني هو ميدان العمومية. والعمومية هي ماهية الفردية والخصوصية وتحديدها الأخير، بعد تجريدها من جميع التعيينات.

[7] - راجع، ريجيس دو بريه، في "نقد العقل السياسي"، من منشورات دار الآداب، ببيروت. ومحمد عابد الجابري، في "العقل السياسي العربي"، من منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، ببيروت.

[8] - الدولة القومية، في نظر القومويين عامة والبعثيين منهم خاصة، كالدولة الدينية، دولة حصرية وإقصائية لجماعة من "المؤمنين" هي "خير أمة أخرجت للناس"، تحتكر الحقيقة والوطنية، ولا تسمح بأي نوع من المشاركة أو المعارضة.

[9] - لا شك في أن لتردي الأوضاع المعاشية لأكثرية السوريين أثراً مهماً في التسامح إزاء عمل المرأة، ففي أيام شبابنا كان موضوع عمل المرأة موضوعاً خلافياً في كل مجلس، وكانت أكثرية النخبة، ناهيكم عن العامة، تميل إلىالمحافظة.

[10] - التعديل الوحيد الذي أقر في مجال الأحوال الشخصية، عام 2004 ، هو رفع سن حضانة الأم المطلقة أو الأرملة لأطفالها سنتين.

حقوق الانسان

يقصد بحقوق الإنسان في أبسط معانيها توفير الاحتياجات اللازمة لعموم الأشخاص و توفير حياة كريمة للإنسان، ولتحقيق هذه الحياة يتطلب ذلك تأمين مصدر رزقه و حقه في العمل و الإنتاج و حقه في المشاركة في الحياة العامة.
و قد تبين من الدراسة الخاصة ب"العطاء الاجتماعي في مصر" أن المستفيدين من الجمعيات الأهلية يفضلون عمل مشاريع عن الإعانات الشهرية حفظاً لكرامتهم التي تعد من أهم حقوقهم، و تفضيلهم للأخذ في السر دون علم الآخرين فيعد الستر و الصحة من أبرز حقوق الإنسان. و يلاحظ أن العلاقة بين حقوق الإنسان و التنمية علاقة تبادلية، فتعد التنمية أحد حقوق الإنسان، كما أن حقوق الإنسان تعد مطلباً أساسياً لتحقيق التنمية فإذا أهدرت حقوق الإنسان كيف يصبح شريكاً في التنمية؟ و لكن إذا تم تطبيق هذه الحقوق على أكمل وجه يستطيع الإنسان أن يحيا حياة كريمة تساعده على العطاء و الإنتاج و العمل على تطوير المجتمع، و زادت قدرته على العطاء و مساعدة الآخرين و تحقيق التنمية.
حقوق الانسان

مقدمة عامة
تعتبر حقوق الإنسان من أهم الموضوعات التي تشغل اهتماما كبيرا منذ القرن الماضي على المستوى الدولي و الوطني. و ربما يرجع ذلك الاهتمام إلى الظلم و الجور الذي عانى منه الإنسان على مر العصور و الرغبة في وضع حد له و ضمان حياة إنسانية لجميع البشر. و بدأ هذا الاهتمام يتزايد بصفة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. و نتيجة لذلك، بدأ المجتمع الدولي يقيم المؤتمرات و يعقد المواثيق و المعاهدات، كما بدأ ظهور العديد من المنظمات الدولية و المحلية للدفاع عن حقوق الإنسان و بدأ نشر الكثير من المؤلفات و الأبحاث المهتمة بحقوق الإنسان.1
مصطلح حقوق الإنسان
و رغم أن الإنسان هو الإنسان في جميع أنحاء الأرض، إلا أن مفهوم حقوق الإنسان يثير الكثير من الجدل و أحيانا الخلاف على المستوى الدولي. و قد يرجع هذا الاختلاف إلى تنوع النظرة الثقافية و الدينية و السياسية تجاه هذا المفهوم.2 وعلى الرغم من تعدد التعريفات الخاصة بحقوق الإنسان، إلا أننا يمكن أن نعرفها بأنها (مجموعة الاحتياجات أو المطالب التي يلزم توافرها بالنسبة إلى عموم الأشخاص، وفي أي مجتمع، دون أي تميز بينهم_ في هذا الخصوص- سواء لاعتبارات الجنس، أو النوع، أو العقيدة السياسية، أو الأصل الوطني، أو لأي اعتبار آخر.)3
تصنيفات حقوق الإنسان
تنقسم حقوق الإنسان إلى ثلاثة مجموعات: الحقوق الفردية، الحقوق الجماعية و حقوق الأفراد المنتمين إلى جماعات خاصة. الحقوق الفردية هي الحقوق التي تتصل بكل فرد في المجتمع و هي تتعلق بحقوق مدنية و سياسية و حقوق اقتصادية و اجتماعية و ثقافية. الحقوق المدنية و السياسية تتمثل في الحق في حماية الحرية الشخصية، الحق في الحياة و السلامة و الأمن، الحرية الدينية، حرية الرأي و التعبير، حرية الاجتماع، حرية التجمع، احترام الحياة الخاصة، الاعتراف لكل فرد بالشخصية القانونية، الحماية القضائية، التنقل و اختيار مكان الإقامة، تحريم التعذيب أو العقوبة القاسية، المشاركة في إدارة الشئون العامة، الحق في الجنسية و الحق في تولي الوظائف العامة. أما بالنسبة للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية فتتمثل في الحق في العمل، التعليم، الحماية من الرق و العبودية، الحق في الإضراب، تحريم السخرة، تحريم التمييز لأي سبب من الأسباب، الحق في الضمان الاجتماعي، الحق في الرعاية الاجتماعية المناسبة، و الحق في السكن. كما أن هناك نوع يسمى بالجيل الثالث لحقوق الإنسان و الذي ظهر نتيجة لتطورات الحياة و يتعلق بحق الإنسان أن يعيش في بيئة نظيفة، الحق في تناول المعلومات و عدم حجبها، الحق في مستوى معيشي مناسب، الحق في السلام و الأمن و الحق في التنمية.4 المجموعة الثانية من حقوق الإنسان هي الحقوق الجماعية و هي الحقوق التي لا يمكن أن تمارس فرديا و تتعلق بالحق في تقرير المصير، حقوق الأقليات، الحق في السلام، حقوق المدنيين في أثناء النزاعات المسلحة و تحت الاحتلال، حقوق العمال و المهاجرين أو الأجانب و حقوق السكان الأصليين. أما بالنسبة لمجموعة الحقوق الثالثة، فهي متعلقة بحقوق فئات ذو أوضاع خاصة مما يستوجب حقوقا إضافية لهم مثل الأطفال، النساء، المعاقين و المسنيين.5
مواثيق حقوق الإنسان الدولية
تتمثل المواثيق الدولية الرئيسية لحقوق الإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية عام 1966 و العهد الدولي للحقوق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية عام 1966. و تعتبر هذه المواثيق نظاما دوليا قانونيا يمكن أن يسمى "بالتشريعات الدولية لحقوق الإنسان". ذلك إلى جانب المواثيق التي جاءت فيما بعد و يرتبط جميعهم بمفاهيم و مباديء متقاربة مؤكدة بعضها البعض. و يعتبر العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية و العهد الدولي للحقوق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية طفرة حقيقية في مجال التشريعات القانونية لحقوق الإنسان. فبينما يعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 مرشدا للقواعد الإنسانية و الأخلاقية التي يجب أن تتبعها حكومات الدول في حقوق المواطنين و واجباتهم، إلا أن الاتفاقيتان التاليتان للحقوق المدنية و السياسية و الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية يعتبران بمثابة تحول هذه الإرشادات إلى قوانين دولية ملزمة للدول و الحكومات.6 و لكن برغم الإنجاز و الاهتمام الكبير التي حازت عليه قضية حقوق الإنسان منذ الإعلان العالمي سنة 1948، إلا أن هناك العديد من البلاد التي مازالت بعيدة كل البعد عن تطبيق القوانين الدولية لحقوق الإنسان و خاصة في معظم البلاد النامية حيث تخلو أغلبها من نظام ديمقراطي حقيقي قادر على تنفيذ حقوق الإنسان بصورة فعلية. 7 كما أنه من الملاحظ أن الكثير من الدول الغربية المنادية بحقوق الإنسان لا تنفذ هذه الحقوق إلا داخل حدودها فقط بينما تمتلىء سياساتها الخارجية بانتهاكات محزنة لحقوق الإنسان. و تتمثل هذه الانتهاكات في إنتهاك سيادات الدول و انتهاك المدنيين التي قامت و ما زالت تقوم به أمريكا مثل إلقاء الغازات المدمرة على فيتنام و القنابل الذرية على اليابان و قصف السودان و أفغانستان و احتلال العراق. كما يتبين عدم تنفيذ مبادىء حقوق الإنسان في سكوت أوروبا على مذابح إسرائيل في دير ياسين و صابرا و شاتيلا. بالإضافة إلى محاكمة أكبر مفكري فرنسا لإثباته أن عدد الذين أعدموا في عهد هتلر ليسوا ستة آلاف كما تزعم اسرائيل و السكوت على إباحة التعذيب في المحاكم الإسرائيلية.8
حقوق الإنسان في الدستور المصري:
إن الدستور المصري الصادر في 11 ديسمبر 1971 يعد واحد من جملة الدساتير المصرية الصادرة تباعاً منذ عام 1882، و التي تضمن العديد من الأحكام ذات الصلة بموضوع حقوق الإنسان، فالباب الثالث ( المواد من 40-63) يتناول الحريات و الحقوق و الواجبات العامة. و الواقع أن الدستور المصري الحالي بالإضافة إلى تأثره بأحكام الشريعة الإسلامية فإنه قد ساير الاتجاهات الدولية بشأن حقوق الإنسان و حرياته الأساسية على وجه العموم، بدءاً بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948م مروراً بالاتفاقات و المواثيق و الإعلانات الدولية التي صدرت بعد ذلك.فقد حرص واضعوا الدساتير المصرية على إقرارها و التوكيد عليها و من بين هذه الحقوق على سبيل المثال: الحق في الحرية الشخصية، و الحق في حرمة المسكن، و الحق في حرية الرأي و التعبير، و الحق في التملك، و الحق في حرية السفر و التنقل، و الحق في العمل.... و بالإضافة إلى اهتمام المشرع المصري بتقرير العديد من الحقوق و الحريات للمواطنين، فإنه قد نص على مجموعة من الضمانات لوضع هذه الحقوق و الضمانات موضع التطبيق ومن بين هذه الضمانات مبدأ المساواة بين جميع المواطنين و كفالة الحق في التقاضي و التوكيد على مبدأ استقلال القضاء، و حرصاً على توفير أكبر قدر من الحماية للحقوق و الحريات استثنى الدستور المصري الاعتداءات على هذه الحقوق من القواعد العامة التي تقضي بانقضاء الدعاوي الجنائية و المدنية بالتقادم.9الخلاف بين حقوق الإنسان في الغرب و حقوق الإنسان في الإسلام تزايد الجدل حول الاختلافات بين المبادىء العالمية لحقوق الإنسان و حقوق الإنسان في الإسلام. و قد أصدر البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان سنة 1981 ليبين حقوق الإنسان التي أقرها الإسلام من خلال القرآن و السنة. و يوضح البيان أن حقوق الإنسان في الإسلام تتضمن حق الحياة، حق الحرية، حق المساواة، حق العدالة، حق الحماية من التعذيب، حق الفرد في حماية عرضه و سمعته، حق اللجوء، حقوق الأقليات في ممارسة العبادات و ممارسة أوضاعهم المدنية طبقا لشريعتهم، حق المشاركة في الحياة العامة، حق حرية التفكير و الاعتقاد و التعبير مادام يلتزم الحدود العامة التي أقرتها الشريعة، حق الحرية الدينية، حق الدعوة و البلاغ، حق الحماية الفكرية، حق الفرد في كفايته من مقومات الحياة، حق بناء الأسرة، حق التربية و تتضمن التربية الصالحة و التعليم للأطفال، حق الفرد في حماية خصوصياته و حق الحرية في الارتحال و الإقامة. كما يحتوي البيان الحقوق الاقتصادية في الإسلام و يتضمن حق العمل، حق الملكية الخاصة، حق مساعدة الفقراء من أموال زكاة الأغنياء، و حق توظيف مصادر الدولة لمصلحة الأمة.10 و لا تعتبر هذه الحقوق في الإسلام مجرد "حقوق" يمكن للفرد أو الجماعة التنازل عنهم، إنما تعد من "الضرورات" التي لا يمكن لمسلم أن يتركها، بل و يعد آثما إن فرط فيها باختياره.11 و برغم توافق أغلب الحقوق بين حقوق الإنسان الدولية و حقوق الإنسان في الإسلام، يتمركز الاختلاف بينهم في عدة نقاط. من ضمن هذه النقاط أنه في حين أن حقوق الإنسان الدولية تؤكد على الحرية الدينية المطلقة، إلا أن الإسلام وضع لهذه الحرية شروطا. ففي الإسلام يمكن لأي شخص غير مسلم أن يعتنق ما يريد من ديانة بينما أفتى الكثير من العلماء أنه لا يصح لمسلم أن يرتد عن الإسلام، و قد مضى البعض أن عقوبة المرتد هي القتل، بينما بين بعض العلماء، منهم الدكتور محمد عمارة، رأي الإسلام في حرية المسلم الدينية بصورة أكثر توضيحا. فلقد أوضح الدكتور عمارة أن عقوبة القتل ليست العقوبة الأولى و القاطعة إذا ما تسلل الشك في قلب المسلم و أدى به إلى الكفر بالإسلام. فالمسلم إذا بدأ يتشكك في الإسلام يجب عليه أن يسعى بشتى الطرق لكي يفهم الإسلام بصورة أكثر تعمقا و وضوحا. فإذا لم يستطع أن يطمئن قلبه للإيمان بعد أن فعل كل ما يستطيع من سعي، فإنه يجب ألا يعاقب إذا أبقى هذا التفكير بداخله و يكون هذا من منطلق أن "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" حيث أن الله لا يفرض على أحد أكثر مما يستطيع. أما بالنسبة لحسابه يوم القيامة، فهذا يترك كاملا لتقدير الله سبحانه و تعالى حيث أنه العادل و العالم بالأنفس. ثم إن في هذه الحالة لا يجب أن يطلب من المرء أن يستمر في الإسلام لأن ذلك يكون دعوة للنفاق و يتضاد مع الإيمان الصحيح الذي هو قلب الإسلام. كما أن الآية 256 في سورة البقرة "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" ثبت أنها أنزلت بمناسبة حالات ردة عن الإسلام و بالتالي لا تقتصر على غير المسلمين فقط و إنما تشمل المسلمين أيضا. و قد وافق الشيخ محمد مهدي شمس الدين على هذا الرأي و لكنه لم يكتفي بذلك. فلقد أوضح أن المسلم المرتد يترك طالما ستر عقيدته الداخلية بينه و بين نفسه. و لكن الإسلام ليس فقط عقيدة فكرية و لكنه أيضا يتصل إتصالا وثيقا بالمجتمع. فإذا أراد الشخص أن يفصح عن ما بداخله و يعلن خروجه عن الإسلام، فله ذلك و لكن عليه أن يتنازل عن المميزات و الحقوق التي ينعم بها بكونه مسلم. و من هذه الحقوق التخلي عن الحقوق الاجتماعية مثل زواجه من امرأة مسلمة و حقوقه المالية مثل الورث من قريب مسلم. أما عقوبة القتل فتقع فقط عندما يبدأ هذا الشخص بمحاربة الإسلام كأن يكون مجموعة تعتنق أفكاره و تحاول أن تهدم الإسلام. و بالتالي فإن حد القتل لا يكون بمجرد تركه للإسلام و إنما بتحوله عن المسالمة إلى تدمير الإسلام و المجتمع الإسلامي ككل.12 ثاني اختلاف بين حقوق الإنسان الدولية و الإسلامية تكمن في عقوبة الإعدام. و هناك جهودا دولية كبيرة تسعى إلى إلغاء هذه العقوبة في حين أن الدول الإسلامية ترفض إلغاءها حيث أنها حددت في القرآن لتكون عقوبة لثلاثة جرائم: الخيانة العظمى، القتل، و قطع الطريق بالسلب و النهب و السرقة كرها و عمدا.13 أما الاختلاف الثالث فهو يتعلق بالمساواة المطلقة بين الجنسين و يتضمن المساواة في الشهادة و الميراث و الزواج. و لقد كتبت الكثير من التفسيرات عن حكمة الإسلام في التباين في المعاملة بين الرجل و المرأة. بداية، لقد جعل الإسلام شهادة المرأتين مساوية لشهادة رجل واحد. و من أكثر التفسيرات التي ذكرت في هذا الشأن أنه بسبب غلبة العاطفة عند المرأة عن الرجل. فقد تكون الشهادة موقفا صعبا بالنسبة للمرأة خاصة إذا كان يرتبط بأحد المقربين لها حتى أنها قد تنسى أو تخطأ دون قصد و بالتالي تكون في حاجة إلى من يذكرها و يساندها. 14 و لكن هناك تفسيرا آخر جاء به الدكتور محمد سليم العوا و هو أن مسألة الشهادة تعد من المميزات التي ميز و ساعد الله بها المرأة على الرجل و ليس العكس، حيث أن المحكمة لا تطلب رأي الشاهدة الثانية إلا إذا أصاب النسيان الشاهدة الأولى بالفعل، فتأتي الثانية لكي تساعدها. و لكن إذا لم تتعرض الشاهدة للنسيان، فيأخذ بشهادة الأولى دون اللجوء للثانية. ذلك في حين أن الرجل ليست لديه تلك الميزة حيث أنه إذا أخطأ في الشهادة، حتى إذا كان بسبب النسيان، يتعرض للعقاب كشاهد زور.15 كما تتضمن التفرقة بين الرجل و المرأة و التي تمثل أحد الاختلافات بين حقوق الإنسان الدولية و حقوق الإنسان في الإسلام التفرقة في الميراث. فلقد أقر الإسلام أن للذكر مثل حظ الأنثيين بين الإخوة و الأخوات. كما أنه أقر أن نصيب الزوجة من زوجها المتوفي نصف نصيب الزوج من زوجته المتوفية. و يرث الأب من ولده مثل الأم أو أكثر منها و لكن لا يقل عنها في أي حال من الأحوال. و ترجع هذه التفرقة إلى أن الإسلام قد جعل من واجبات الرجل الأساسية أن ينفق نفقة كاملة دون تقطير حسب إمكانياته على كل من يعولهم في حين أنه ليس من واجبات المرأة سواء كانت ابنة أو زوجة أو أخت الإنفاق على أحد حتى و إن كان على نفسها بغض النظر عن مستواها الاقتصادي. و بالتالي فإنه ليس من العدالة أن تأخذ المرأة نفس نصيب الرجل في الميراث في حين أنه ليس لديها نفس الواجبات، بل هي إسلاميا معفاة تماما من أية واجبات ترتبط بالإنفاق.16 كما أن من أوجه الخلاف المرتبط بالتفرقة بين الرجل و المرأة العلاقة الزوجية و منها حق الرجل في القيام على الأسرة و الإشراف على شئونها و حقه في طاعة الزوجة. و قد أوضح الكثير من العلماء المسلمين أن هناك سببان لهذا الحق. أولهما أن الرجل مكلف تكليفا كاملا بالإنفاق على الأسرة و بالتالي فإن من حقه الإشراف عليها. و الثاني هو أن غلبة العقل و التفكير عند الرجل يؤهلانه أن يقيم على الأسرة بصورة أفضل. و لقد قال الله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض و بما أنفقوا من أموالهم (سورة النساء، آية 34). و مع هذا فإن مبدأ الشورى و الرفق و الرحمة في التعامل من الواجبات اللازمة على الرجل. فالزوج ليس له الحق في الاستبداد و التحكم و إنما عليه واجب الرعاية و الحماية.17 كما أن المرأة لها الحق الكامل في اختيار زوجها دون إكراه من وليها. و في نفس الوقت، إذا ما اختارت المرأة زوج و رفضه وليها دون سبب شرعي، فعليها أن تذهب إلى القاضي ليتم عقد زواجها. و لأن الزواج علاقة بين أسرتين و لأن الزوجة و أسرتها هم الذين ينالهم الجزء الأكبر من الضرر عندما يكون الزوج غير كفء، فلقد أعطى الإسلام ولي الزوجة الحق في الاعتراض كما أعطى المرأة حق اللجوء إلى القاضي إن كان اعتراض الولي ظلما. و قد ذهب أبو حنيفة إلى أن للمرأة الحق في أن تتم زواجها بنفسها، شرط أن يكون زوجها كفء.18 و مما سبق، نجد أن الإنسجام الكامل بين حقوق الإنسان العالمية و حقوق الإنسان في الإسلام مسألة غير سهلة لأنها تتعرض إلى مسائل لها علاقة بالشرع المستمد مباشرة من القرآن، و ذلك بالنسبة لعموم المسلمين غير قابل للتغيير. و من ناحية أخرى بالرغم من أنه من المهم أن نضع قوانين دولية لحقوق الإنسان، إلا أن الأهم هو تفعيل هذه القوانين و ممارستها بصورة حقيقية على مستوى الدول و الحكومات و حتى الأفراد و أن لا تترك للأهواء السياسية و الشخصية.
1 اسماعيل أمين الحاج حمد نواهضة. "الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان" مؤتمر مستقبل الأمة الإسلامية، المؤتمر العام الخامس عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، جمهورية مصر العربية، وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 2003، ص 742-745
2 عبد العليم محمد. حول المشروعية الوطنية و الثقافية لحقوق الإنسان، رسائل نداء الجديدة(38)، جمعية النداء الجديد، القاهرة، ص 5
3 أحمد الرشيدي. حقوق الإنسان: دراسة مقارنة في النظرية و التطبيق، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد و العلوم السياسية، قسم العلوم السياسية: القاهرة، ط1، 2003، ص 35
4 أحمد الرشيدي: حقوق الإنسان دراسة مقارنة في النظرية و التطبيق، م. س. ذ، ص 137 - 144
5 أحمد الرشيدي: حقوق الإنسان دراسة مقارنة في النظرية و التطبيق، م. س. ذ، ص 145 - 151
6 عبد العليم محمد. حول المشروعية الوطنية والثقافية لحقوق الإنسان م.س.ذ، ص 8 - 9
7 سعيد سعيد النجار. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عيده الخمسين، رسائل النداء الجديد(46)، القاهرة، جمعية النداء الجديد، أبريل1999، ص 12، 13
8 جمال البنا. منهج الإسلام في تقرير حقوق الإنسان دار الفكر الإسلامي: القاهرة، 1999، ص 137 - 138
9 أحمد الرشيدي: حقوق الإنسان دراسة مقارنة في النظرية و التطبيق، م. س. ذ، ص ص 106-115
10 جمال البنا. البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان: مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامي: القاهرة، 1999، ص 16 - 43
11 محمد عمارة. الإسلام وحقوق الإنسان ضرورات لا حقوق، دار السلام: القاهرة، ط1، 2004، ص 14
12 جمال البنا. منهج الإسلام في تقرير حقوق الإنسان، م.س.ذ، ص 66 - 75
13 مراد هوفمان. الإسلام كبديل مكتبة العبيكان: الرياض، ط 4، 2002، ص 192
14 على عبد الواحد وافي. حقوق الإنسان في الإسلام نهضة مصر: القاهرة، 2002، ص 84 - 85
15 محمد سليم العوا. أزمة المؤسسة الدينية دار الشروق: القاهرة، ط 2، 2003، ص 32
16 على عبد الواحد وافي. حقوق الإنسان في الإسلام نهضة مصر: القاهرة، 2002، ص 80 - 81
17 على عبد الواحد وافي. حقوق الإنسان في الإسلام، م.س.ذ، ص 81 - 82
18 على عبد الواحد وافي. حقوق الإنسان في الإسلام، م. س. ذ، 2002، ص 83
و لمزيد من المعلومات عن حقوق الإنسان، أنظر إلى المصادر الآتية:


أحمد الرشيدي. حقوق المرأة المصرية في الدستور و القانون رسائل النداء الجديد(59)، جمعية النداء الجديد: القاهرة، ،يونيو 2001. أحمد شمس الدين خفاجى. المشروعات الدستورية و حقوق الإنسان رسائل النداء الجديد (51)، جمعية النداء الجديد: القاهرة، مايو 2001. جعفر عبد السلام علي. القانون الدولي لحقوق الإنسان: دراسات في القانون الدولي والشريعة الإسلامية دار الكتاب المصري: القاهرة و دار الكتاب اللبناني: بيروت، ط1، 1999 زينب حسين عوض الله. حماية حقوق المستهلك في الاقتصاد المصري، رسائل النداء الجديد(15)، جمعية النداء الجديد: القاهرة. علي عبد الواحد وافي. حقوق الإنسان في الإسلام، سلسلة قضايا إسلامية،ع (13)، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية: القاهرة، 1996 قضايا معاصرة: البصمة الوراثية ودورها في إثبات ونفي النسب، المفاهيم الاقتصادية لحقوق الإنسان، غسيل الأموال رؤية إسلامية، ع(112)، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية: القاهرة، 2004 كامل حمود. صورة الإنسان في الحديث النبوي الشريف دار الفكر اللبناني: بيروت، ط1، 1993 كرم حلمي فرحات أحمد. الإسلام دين السلام وحامي حقوق الإنسان دار الأفاق العربية: القاهرة، ط1، 2003 مجوب التيجاني. الشرع الإسلامي بين حقوق الإنسان و القانون الدولي مركز الدراسات و المعلومات القانونية لحقوق الإنسان: القاهرة، 1995. محمد الغزالي. حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام و إعلان الأمم المتحدة نهضة مصر: القاهرة، ط1، 2003 محمود حمدي زقزوق. الإنسان في التصور الإسلامي، سلسلة قضايا إسلامية، ع(73)، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية: القاهرة، 2001 مرتضى المطهري. حقوق المرأة في النظام الإسلامي،حيدر الحيدر(ترجمة)، مكتبة الفقيه: الكويت، 1986 ندوة علمية حول الشريعة الإسلامية و حقوق الإنسان في الإسلام، دار الكتاب اللبناني: بيروت، 1973 Conferences of Riyad, Paris, Vatican, City, Geneva, And Strasbourg, On Moslem doctrine and Human Rights in Islam: Between Saudi Canonists and eminent European Jurists and intellectuals, ministry of justice_Riyad &Dar Al kitab allubnani_Beirut

قراءة موضوعية لمفهوم "المجتمع المدني".

قراءة موضوعية لمفهوم "المجتمع المدني".

يكتسب مفهوم (المجتمع المدني) حضوراً متزايداً في الخطاب العربي والإسلامي؛ وتتجلى صور هذا الحضور في رغبة جميع القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بمختلف أيديولوجياتها، في زيادة هامش الحراك داخل المجتمعات العربية، وفي تفعيل دور المجتمع في الرقابة والتطوير كخط موازٍ لمؤسسات الدولة الرسمية. فالهدف المنشود من رفع شعار (المجتمع المدني) هو التكامل مع مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية، لا الانقضاض عليها أو تهميشها. وينصرف تعارض المصالح داخل المجتمع إلى شحن مفهوم (المجتمع المدني) بمدلولات ليست منه، أو إلى تفريغ المفهوم من مضمونه بحيث تسهل إدانته ورفضه. لذلك سيسعى هذا البحث المختصر إلى محاولة قراءة المفهوم في منشئه الأصلي، وفي ضوء ما تراكم من آراء الباحثين المهتمين به وبتطبيقاته. ولا يزعم هذا البحث الإحاطة بكل تفصيلات المفهوم، أو إنهاء الجدل حوله، ولكن من المؤكد أنه ينطلق من رغبة جادة في إعطاء الموضوعية والتحليل مكانهما اللائقين من جميع أجزاءه.

نشأة المفهوم؟
كان هاجس الاستقلالية عن سلطة الكنيسة ، وسلطة الدولة الإمبراطورية في التجربة الأوروبية ، يشكل محورًا رئيسياً في نشأة مفهوم (المجتمع المدني). ويمكن القول بصورة عامة أن مفهوم (المجتمع المدني) كان يتحدد قبل الفيلسوف الألماني فردريك هيجل [1831 ـ 1770] على أنه طرف آخر في مقابل سلطة الكنيسة وسلطة الحكم الاستبدادي ، فالمجتمع المدني عند الفيلسوف الإنجليزي جون لوك [1704 ـ 1632] يتحدد بكونه مجالاً مستقلاً عن الدولة ، منحصراً في الجماعة الأهلية ، وروحها التضامنية من خلال العقد الاجتماعي ، فهو يقرر بأن "البشر مستقلون ، متساوون ، وليس لأحد أن يلحق الأذى بهم ، وبحياتهم ، وبصحتهم ، وبحريتهم أو ممتلكاتهم"[i][1]. وعلى ذات المسار الفكري لجون لوك، سار الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو [1755 ـ 1689] محددا (المجتمع المدني) بأنه "البنى الوسيطة بين الحاكم والمجتمع"[ii][2]، ولكن مع فردريك هيجل بات (المجتمع المدني) يمثل لحظة من التطور في المجتمع الأوروبي تقع بين الأسرة والدولة[iii][3]، أي أن (المجتمع المدني) كما حدده هيجل هو عبارة عن "مرحلة بين الرابطة الأسرية القائمة على القرابة والتبعية المباشرة وبين الدولة الممثلة للمصلحة العامة"[iv][4]. وتأكيداً لما قرره فردريك هيجل، يسوق الدكتور محمد عابد الجابري في معرض تتبعه لتاريخ مفهوم (المجتمع المدني) في الثقافة الأوربية ما يفيد بأن ظهوره محملاً بهذه المعاني قد أتى كاستجابة طبيعية لثلاث اعتبارات مركزية هي كالتالي: "باعتباره البديل لسلطة الكنيسة على المجتمع من جهة، والبديل لسلطة الدولة الإمبراطورية التي قوامها ثنائية الراعي- الرعية من جهة ثانية، والبديل لهيمنة الأسرة التي تتمثل في الأب الذي يتحول في النظام البطريركي إلى شيخ قبيلة من جهة ثالثة"[v][5]. فمفهوم (المجتمع المدني) قد ارتبط عضوياً بالتطور الذي شهده المجتمع الأوربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في ميادين التجارة والصناعة والعلم، وبالتالي الاجتماع والسياسة. في ظل هذه التطورات، لم تصمد الكنيسة ومنظومتها الفكرية في وجه زحف التيار العقلاني ربيب فكر الأنوار، وتفككت العائلة بفعل الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي البرجوازي، وحلت محلها الشركات والنقابات والجمعيات ، وهيمنت التجارة ومنطقها ، فتعززت الفردية من جهة ، وساد التبادل والاعتماد المتبادل الذي تؤسسه المصلحة الخاصة من جهة ثانية. وجماع هذه التطورات هي مضمون مصطلح (المجتمع المدني)[vi][6].

مضامين متعددة لمفهوم واحد !
إذا أردنا إعطاء تعريف مبسط لمفهوم (المجتمع المدني) سنقول بأنه "نوع من الحياة الاجتماعية والاقتصادية بمعزل عن وصاية وهيمنة الدولة المباشرة"[vii][7]. أما قاموس أكسفورد الوجيز فيعرِّف (المجتمع المدني) بأنه "مجموعة من الروابط (التجمعات) الوسيطة التي تقع بين الدولة والأسرة الممتدة، والتي يقوم الارتباط فيها على الإنتماء الطوعي"[viii][8]. ولعل القارئ يلمس اشتقاق تعريف (المجتمع المدني) في قاموس أكسفورد الوجيز من التعريف الذي وضعه فردريك هيجل والذي يعد من أكثر التعاريف الرائجة والمعتمدة بين الباحثين. وهناك من الباحثين من ينطلق في تعريفه (للمجتمع المدني) من الصفات الذي حددها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك فيقول "للمجتمع المدني هياكل وتنظيمات تقوم في عملها ووظائفها وكذلك في علاقتها مع الآخرين على منظومة قيمية معينة أهمها الحرية المكفولة للجميع ، وقبول الآخر ، والتعددية والحوار ، والتسامح والتنافس السلمي. هذه القيم هدفها الحدّ من تعاظم النزعة التسلطية للدولة"[ix][9]. ومصطلح (المجتمع المدني) له مرادفات عديدة في الخطاب العربي، منها على سبيل المثال لا الحصر: (المجتمع الأهلي)، (المجتمع المدني الأهلي)، (تجمعات المجتمع المدني الأهلية)، ... إلخ. وقد قام أحد الباحثين بتفكيك أحد هذه المرادفات وهو مصطلح (تجمعات المجتمع المدني الأهلية) فوجده تركيبا يقوم على ثلاثة مفاهيم " أولاً: تجمعات ، أي تكتلات كالجماعات والنقابات ، والجمعيات والروابط والمنتديات. ثانياً: أنها مدنية ، أي ليست تكتلات قبلية أو عنصرية ، تعتمد على علاقات القرابة والنسب ، ولا تكتلات إقليمية ، تعتمد على علاقات المجاورة في الحارة والمساكنة في القرية ، وإنما هي تكتلات تعتمد على التخصص والعمل ، أو الرؤية الاجتماعية والسياسية والثقافية. ثالثاً: أنها أهلية ، أي غير الرسمية/ غير الحكومية ، وقد استقرت كلمة الأهلي ـ في اللغة العربية المعاصرة ـ بهذا المعنى ، وكانت مصطلحاً رائجاً منذ بدايات عصر النهضة ، للتعبير عن تكتلات المجتمع المدني ، ووصف تكتلات المجتمع المدني بالأهلية لا يحدد وظيفتها بأنها غير مدنية، ولا بأنها حداثية أو تقليدية، ولكنه يحدد طبيعتها بأنها غير رسمية ، وهو ما يجنبنا من الإضطراب"[x][10].

وحتى لا يتشتت القارئ بين هذا الكم من التعريفات، يمكننا أن نجمل القول بأن للمجتمع المدني خاصيتين واضحتين هما، الإستقلالية والتنظيمية. أما الأولى، الإستقلالية، فارتباطها بالمفهوم هو ارتباط عضوي ثابت، أي أنه يستحيل تجريد المفهوم منها، فلابد للمجتمع المدني أن يستقل عن الدولة وعن أي مؤسسة شمولية. أما الثانية، التنظيمية، فارتباطها بالمفهوم هو ارتباط ظرفي، بمعنى أنها صيغة تُنظم المجتمع، أو قالب تنظيمي يطرأ مع بلوغ مجتمع ما من المجتمعات درجة معينة من التعقيد في كافة علاقاته، وهذه الصيغة تستجيب للمرجعية المعتمدة في المجتمع دون أن تتحيز لأيديولوجية أو شكلية معينة.

ظهور التداول العربي للمفهوم؟
من الصعب تحديد بداية ظهور مفهوم (المجتمع المدني) في التداول العربي الحديث، بيد أن تطور الدولة المركزية القطرية في العالم العربي قد وصل إلى مرحلة أضحت فيها الدولة القطرية متسيدة ، بل ومحتكرة لكافة مناحي الحياة. فالدولة في العالم العربي تحتكر زمام المبادرة في جميع المجالات الحياتية، ولها القدرة على التأثير ، سلباً أو إيجابأ، في جميع هذه المجالات. هذا الدور الدولتي المتعاظم أدى إلى إعاقة آليات المحاسبة والمشاركة السياسية والاجتماعية من التشكل، وفي بعض الأحيان، إلى إبطاء عملية الانتقال الديمقراطي في بعض الأقطار العربية. لذلك سعت النخب العربية إلى طرح بعض المفاهيم المستوحاة من الفكر الغربي ، ومفهوم المجتمع المدني أحدها، والتي من شأنها إعادة الاعتبار والحيوية للمجتمع في المشاركة والمحاسبة والتطوير. أضف إلى ذلك أن أدواراً أخرى كان لها فضل في ظهور الوعي بمفهوم (المجتمع المدني)، كانتشار التعليم الحديث ،الأساسي والعالي، على نطاق واسع؛ والاحتكاك بالغرب من خلال التعليم، والتواصل الثقافي معه ؛ وارتباط المصالح العربية/الغربية. في ضوء هذه المعطيات، تولّدت نخب قادرة على التواصل والتفاعل مع العالم الغربي في شتى المناحي البيروقراطية والثقافية والتعليمية. والأهم من ذلك هو أن تعاظم أدوار تلك النخب "الحداثية" ومشاركتها في التطوير والتحديث قد قلص من أدوار النخب التقليدية (شيخ القبيلة، عالم الدين، رئيس الطائفة، ...، إلخ) بصورة لم تعهدها المجتمعات العربية من قبل.
إن ثمة إغراء يجعلنا نسارع لربط هذه الظواهر الاجتماعية الإنسانية شرقا وغربا ببعضها البعض، وذلك من أجل تبسيط فهمها، أو بتعبير الدكتور محمد عابد الجابري، يجعلنا نطابق بين "الاعتبارات المذكورة التي تحدَّدَ بها هذا المفهوم في أوروبا النهضة والأنوار ، وبين الاعتبارات التي تحدده الآن في العالم العربي ... ذلك أن مفهوم المجتمع المدني يعني في تصور النخبة التي ترفعه شعاراً: البديل من المجتمع الذي تهيمن فيه أفكار وتطلعات (رجال الدين) من جهة، والبديل من سلطة الدولة الاستبدادية الشمولية من جهة ثانية، والبديل من النظام القبلي والمجتمع الطائفي الذي تكون فيه الكلمة العليا لشيخ القبيلة أو رئيس الطائفة من جهة ثالثة. غير أن هذه المطابقة سرعان ما يتبين خطأها وخطرها عندما نتنبه إلى ثلاثة أمور: الأول أن كلام المفكرين في أوروبا النهضة والأنوار عن (المجتمع المدني) كان يخص مجتمعات كانت تنتقل فعلاً من المجتمع الزراعي الإقطاعي إلى المجتمع الصناعي الحداثي. والثاني أنه كان جزءاً من سياق تطور تاريخي كان يخضع بكامله للمعطيات الداخلية الذاتية الخاصة بهذا المجتمع الأوروبي أو ذاك، أعني بذلك غياب التأثير السلبي لأي عامل خارجي. والثالث أن كثيرا من المشاكل الداخلية ، الاقتصادية منها والاجتماعية ، التي كان يعانيها المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت ، قد أمكن تجاوزها بفضل التوسع الاستعماري: الهجرة إلى المستعمرات ، موادها الأولية ، عائدات أسواقها ... إلخ. وهذه أمور غائبة تماما بالنسبة إلى العالم العربي الراهن"[xi][11]. إلا أنه بالإضافة إلى خطورة المطابقة التي تحجب الرؤية الموضوعية تماماً (والخطورة التي يتحدث عنها الدكتور الجابري في الإقتباس السابق هي خطورة المطابقة لا خطورة التشابه) تكمن خطورة أخرى وهي نفي الظروف الداخلية الملحة، وإعطاء ذريعة للانطباع الخاطئ القائل بعدم حاجتنا إلى التدافع الفكري والاستفادة من المفاهيم الغربية الناتجة عن فكر النهضة والأنوار الأوروبي!

الموقف الإسلامي من المجتمع المدني: تنافر أم تواؤم!
يُعتبر مفهوم (المجتمع المدني) من المفاهيم الإشكالية في الخطاب الإسلامي بكافة تموجاته. لذلك من الصعب أن نعثر على مقاربة واضحة، ناهيك عن نظرية إسلامية متكاملة عن المجتمع المدني! وغالبا ما يدور الجدل حول المفهوم بين معارضٍ يرى في نشأته وتاريخه ومضمونه الغربي سبباً لنبذه ، وبين مؤيدٍ يحاول توفيق مضمونه بما يتلاءم مع الإسلام ذاته ، أو مع التجربة الإسلامية التاريخية. ومن نافل القول أن أدبيات التوجه الثاني، الساعي إلى التبيئة والتوفيق، تتجاوز بكثير أدبيات التوجه الأول ،الممانع، الذي يرى في مفهوم (المجتمع المدني) مصادمة صريحة للإسلام[xii][12]، وأنه غالباً ما يشكّل بوابة عبور إلى الدولة العلمانية[xiii][13]. أحد دعاة التوجه الثاني وهو الدكتور أبوبكر باقادر يرى بأن "جذور المجتمع المدني ، كما هو حالة استقلال أو توازن مع الدولة ، موجودة بكثافة في العمق التاريخي للوعي العربي". ويؤكد هذا القول تحليل وجيه كوثراني الذي يرى أن ثمة قوى أدت أدواراً مهمة في إنعاش مفهوم (المجتمع المدني) بالمفهوم الهيجلي (أنظر تعريف هيجل للمجتمع المدني في فقرة "نشأة المفهوم"). هذه القوى تتمثل في ثلاث منظومات أسماها: "أولا ، الدولة/ الشريعة/ العصبية/ الملة. ثانياً ، التنظيم الحرفي/ الطرق الصوفية/ الأسواق والحارات أو فعاليات المدينة الإسلامية. ثالثاً ، الوقف والخدمات الاجتماعية والعملية"[xiv][14]. بيد أن الدكتور أبو بكر باقادر ينقد على الفكر الإسلامي التقليدي تركيزه الأساسي على مسألة الدولة، وتكريس مجهوده في ترسيخ مركزيتها بهدف الحد من من انتشار الفتن والفوضى التي كانت قدر المجتمعات الإسلامية في مراحل عديدة من تاريخها السياسي الطويل[xv][15]. وفيما يتعلق بعدم شيوع المفهوم في الثقافة الإسلامية، وضرورة خلق الظروف الموضوعية التي تساعد على تشكله، يقول الدكتور عبدالله الحامد " إن عدم شيوع المفهوم ولا تحديد عناصره وعدم ظهور تكتلاته ، في أنماط راسخة في الأعراف الاجتماعية ، لا يعني أن الإسلام لم يتبن مبادئ المفهوم ، فضلاً عن أن يتصور أن المفهوم لا ينسجم مع العقيدة الإسلامية. فقيم المجتمع المدني كحقوق الإنسان والديمقراطية ، والحرية ، والعدالة والمساواة وأطرها السياسية: كالدستور والفصل بين السلطات الثلاث ، واستقلال القضاء ، مجموعة مفاهيم أنتجها الغرب ، ولكنها مفاهيم إنسانية ، موجودة الجذور في أي ثقافة ذات حضارة ، ويمكن اليوم لأي ثقافة أن تستدخل المصطلحات الغربية ضمن منظومتها ، وأن تزيد فيها وتعدل وتصهر وتفرز ، حتى تتناسب مع خصوصيتها"[xvi][16]. يعزز قول الدكتور الحامد في بعض جوانبه رأي المفكر والرئيس السابق للجمهورية الإيرانية محمد خاتمي إذ يقول "إن عصرنا الحالي هو عصر، هيمنة الحضارة الغربية التي لا مفر من قراءتها قراءة فاعلة تجتاز المظاهر والظواهر وتتوغل في المبادئ النظرية والأسس القيمية لتلك الحضارة، وهذه المعرفة ضرورية على الرغم من إن المحور في المجتمع المدني الذي نطمح إليه هما الفكر والثقافة الاسلامية، إلا أن هذا المجتمع يجب أن يكون خالياً من الاستبداد الفردي والجماعي، بل وبعيداً حتى عن ديكتاتورية الأكثرية .... مجتمعنا المدني، ليس ذلك المجتمع الذي يكون فيه المسلمون وحدهم أصحاب الحق ومواطني النظام، بل هو المجتمع الذي يكون فيه كل انسان يؤمن بالنظام والقانون هو صاحب حق"[xvii][17].

يبدو جلياً من هذه الاقتباسات أن الفكر الإسلامي الساعي إلى التبيئة والتوفيق يعي ضرورة (المجتمع المدني) في مستقبل التنمية السياسية والاجتماعية في الأوطان العربية والإسلامية. ولكن لو تأملنا حال الاجتهاد الإسلامي لوجدنا اعتماده الرئيس على آلية تنزيل المفاهيم السياسية والاجتماعية مثل الديمقراطية، والأحزاب السياسية، واستقلال السلطات الثلاث، والمجتمع المدني، على مبدأ (الشورى) الإسلامي. وليس ثمة شك بأن أغلب تلك المفاهيم الحديثة تجسد مبدأ "الشورى" بشكل أو بآخر. وبالتالي يجد الفكر الإسلامي في مفهوم (الشورى)، الرحب والمرن، نقطة انطلاق رئيسية تسهل عليه عملية تأصيل تلك المفاهيم الغربية ضمن المنظومة الإسلامية. إلا أن رد جميع المفاهيم والنظريات الاجتماعية والسياسية الحديثة إلى مبدأ (الشورى) يكشف عن عجز الفكر الإسلامي عن إبداع نظريات إسلامية معاصرة لإشكاليات الدولة والمجتمع في الوقت الراهن. وهنا، سأتوقف، وأدعو القارئ الكريم إلى التأمل معي: لا يكف الفكر الإسلامي عن نبذ التبعية للفكر الغربي، وربط التخلف الحضاري العربي والإسلامي بها، ولكن، ألا يسوغ لنا القول بأن الفكر الإسلامي يكرس تلك التبعية ـ دون أن يشعرـ بعجزه عن إبداع نظريات ومفاهيم تستجيب لحجم التعقيد المحيط بالفضاء السياسي والاجتماعي المعاصر؟ ونحن هنا لا ننفي محورية مبدأ (الشورى) في الفكر الإسلامي، وإنما نحاول الكشف عن مدى عجز الفكر الإسلامي عن استنبات الآليات المساعدة والمجسدة لمبدأ الشورى، وذلك يقود إلى حتمية استيراد الحلول من الفكر الغربي!

عوائق بنيوية أمام التحول الحضاري!
يتحدث الكثير من الباحثين عن العوائق البنيوية التي تعتري مسار (المجتمع المدني)، وتتراوح تلك العوائق بين أشكال شتى، قانونية/سياسية، اجتماعية/فكرية، واقتصادية. أما فيما يتعلق بالبنية القانونية المنظمة لتجمعات المجتمع المدني، ولحريات الأفراد والمؤسسات داخله، فما تزال أغلب الأقطار العربية تراوح بين جدلية "فقدان" منظومة القوانين الوضعية المتعلقة بتنظيم حركة (المجتمع المدني)، وبين "تقييد" منظومة القوانين، على افتراض وجودها ابتداءاً، ووضعها تحت الرقابة الصارمة للمؤسسات الأمنية. أضف إلى المعطى القانوني السياسي معطىً آخر يتحدد في الجانب الفكري الاجتماعي، فالمجتمع المدني في ضوء الممارسة الحالية في الوطن العربي يعاني من إشكالية عدم حسم مسألة التعددية الاجتماعية والسياسية. فثمة استقطاب يطال مفهوم (المجتمع المدني) يتجلى في سعي النخب العربية ـ المحافظة والحداثية ـ إلى الاستحواذ على مفهوم (المجتمع المدني) وحصره على توجه أيديولوجي دون آخر، وتطويعه بطريقة تجعله فاقداً لفاعليته واستقلاليته. وإذا لم تحسم إشكالية التعددية الاجتماعية والسياسية ـ على مستوى النظرية والتطبيق ـ فلن نستطيع كمجتمعات عربية إسلامية من تمهيد الطريق للمجتمع المدني لمراكمة جهوده ، ولن نستطيع أيضاً من إتاحة الفرصة العادلة أمام مؤسساته من تطوير صيغة تتلاءم مع خصوصية الوضع العربي الإسلامي. ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أن تنامي الوعي الاجتماعي يشكل دعامة أساسية من دعائم (المجتمع المدني)، إذ إن العامل الحاسم في تكوين مؤسسات (المجتمع المدني) وتجذرها، هو روح المبادرة لدى المواطنين، والرغبة في الاعتماد على النفس ، بدلاً من الاتكال على الدولة ومؤسساتها الرسمية. إن تنظيمات (المجتمع المدني) في العالم الغربي تتمتع بهامش كبير من النضج والحيوية، إذا ما قورنت مع مثيلاتها في العالم العربي ، وذلك يجعلها في موقع أقدر على مقاومة ضغوط الدولة الرقابية[xviii][18]. أما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، فإن نوع الاقتصاد السائد في الأقطار العربية يسيطر عليه قطاعان لا يساعدان على إيجاد ذلك النوع من الاقتصاد الذي تهيمن فيه المؤسسة المستقلة عن الدولة، التي هي الأساس الذي يقوم عليه (المجتمع المدني) ومؤسساته السياسية والثقافية. هذان القطاعان هما: "أسلوب الإنتاج الزراعي غير المصنع، الذي يكرس هيمنة الطابع البدوي القروي في المجتمع، الطابع المناقض بنوع مؤسساته وتقاليده والعقلية السائدة فيه لخصائص (المجتمع المدني)"[xix][19]. و القطاع الثاني هو: "الريع وما في معناه ، أعني الدخل الذي يأتي الدولة ، لا من مسلسل عملية الإنتاج في داخل البلد ، بل من عائدات النفط والعمال المهاجرين والاستغلال لهذا الموقع الاستراتيجي أو ذاك ، والهبات والقروض وعائدات السياحة .... الخ. هذا النوع من الدخل الذي يشكل العنصر الأساسي في اقتصاديات جل الأقطار العربية في الظرف الراهن يقع تحت تصرف الدولة ، أي تحت تصرف الطبقة المسيرة ، تنفق منه في حماية نفسها وتعزيز سلطتها وتقوية أجهزتها ، مما يجعلها مستقلة كلياً ، أو إلى حد كبير ، عن دافعي الضرائب (الذين كانت مطالبتهم في أوروبا بحقهم في مراقبة طريقة صرف الحاكم لأموال الضرائب هي الأصل في الديموقراطية الحديثة). والدولة في العالم العربي تمول بفضل الطابع الريعي للاقتصاد ، وبالطريقة التي تريد ، المشروعات العامة والخدمات الاجتماعية ، فضلاً عن أجور الموظفين ودعم المواد الغذائية ، مما يجعل يدها هي العليا في كل مجال ، عليها تتوقف حياة الأفراد والمؤسسات ، ولا تتوقف هي على أية قوة اقتصادية مستقلة عنها"[xx][20].

إن الموجة الإصلاحية التي تعصف بالأقطار العربية في شتى المجالات الحياتية لا يمكن التنبؤ بمدى جدواها أو فعاليتها في المدى المنظور، ولكن ما يدعو إلى الأمل والترقب هو أن رياح الإصلاح قد أحدثت نقلة كمية ونوعية ملموسة في سقف المطالب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فالحديث عن المجتمع المدني، وتوسيع المشاركة السياسية، والشفافية، والحريات العامة، وتحرير الاقتصاد الوطني، ... إلخ، الذي كان الاقتراب منه في السابق يؤدي بصاحبه إلى العنت والنبذ الاجتماعي والسياسي، أضحى اليوم من المفردات الدارجة على ألسنة الناس. هذه الأحاديث التي تجري في أوساط النخب، وما يصاحبها من جدل يشارك فيه الرأي العام ، ستؤدي بلا شك ، إلى زيادة هامش الوعي بحجم التحديات المطروحة، وسبل تحقيقها. فالمجتمعات العربية تخوض عملية تحول حضارية كبرى، أو برأي الدكتور محمد عابد الجابري "تشهد عملية انتقال من حضارة البادية والقرية وعقليتها وسلوكها ، فضلاً عن اقتصادها، إلى حضارة المدينة التي تهيمن فيها الصناعة والتجارة والخدمات العامة ، من مجتمع المؤسسة الطبيعية (القبيلة وما في معناها) إلى مجتمع المؤسسة العقلانية"[xxi][21].



وائل فؤاد أبومنصور



قراءة موضوعية لمفهوم "المجتمع المدني".

يكتسب مفهوم (المجتمع المدني) حضوراً متزايداً في الخطاب العربي والإسلامي؛ وتتجلى صور هذا الحضور في رغبة جميع القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بمختلف أيديولوجياتها، في زيادة هامش الحراك داخل المجتمعات العربية، وفي تفعيل دور المجتمع في الرقابة والتطوير كخط موازٍ لمؤسسات الدولة الرسمية. فالهدف المنشود من رفع شعار (المجتمع المدني) هو التكامل مع مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية، لا الانقضاض عليها أو تهميشها. وينصرف تعارض المصالح داخل المجتمع إلى شحن مفهوم (المجتمع المدني) بمدلولات ليست منه، أو إلى تفريغ المفهوم من مضمونه بحيث تسهل إدانته ورفضه. لذلك سيسعى هذا البحث المختصر إلى محاولة قراءة المفهوم في منشئه الأصلي، وفي ضوء ما تراكم من آراء الباحثين المهتمين به وبتطبيقاته. ولا يزعم هذا البحث الإحاطة بكل تفصيلات المفهوم، أو إنهاء الجدل حوله، ولكن من المؤكد أنه ينطلق من رغبة جادة في إعطاء الموضوعية والتحليل مكانهما اللائقين من جميع أجزاءه.

نشأة المفهوم؟
كان هاجس الاستقلالية عن سلطة الكنيسة ، وسلطة الدولة الإمبراطورية في التجربة الأوروبية ، يشكل محورًا رئيسياً في نشأة مفهوم (المجتمع المدني). ويمكن القول بصورة عامة أن مفهوم (المجتمع المدني) كان يتحدد قبل الفيلسوف الألماني فردريك هيجل [1831 ـ 1770] على أنه طرف آخر في مقابل سلطة الكنيسة وسلطة الحكم الاستبدادي ، فالمجتمع المدني عند الفيلسوف الإنجليزي جون لوك [1704 ـ 1632] يتحدد بكونه مجالاً مستقلاً عن الدولة ، منحصراً في الجماعة الأهلية ، وروحها التضامنية من خلال العقد الاجتماعي ، فهو يقرر بأن "البشر مستقلون ، متساوون ، وليس لأحد أن يلحق الأذى بهم ، وبحياتهم ، وبصحتهم ، وبحريتهم أو ممتلكاتهم"[iii][1]. وعلى ذات المسار الفكري لجون لوك، سار الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو [1755 ـ 1689] محددا (المجتمع المدني) بأنه "البنى الوسيطة بين الحاكم والمجتمع"[iii][2]، ولكن مع فردريك هيجل بات (المجتمع المدني) يمثل لحظة من التطور في المجتمع الأوروبي تقع بين الأسرة والدولة[iii][3]، أي أن (المجتمع المدني) كما حدده هيجل هو عبارة عن "مرحلة بين الرابطة الأسرية القائمة على القرابة والتبعية المباشرة وبين الدولة الممثلة للمصلحة العامة"[iii][4]. وتأكيداً لما قرره فردريك هيجل، يسوق الدكتور محمد عابد الجابري في معرض تتبعه لتاريخ مفهوم (المجتمع المدني) في الثقافة الأوربية ما يفيد بأن ظهوره محملاً بهذه المعاني قد أتى كاستجابة طبيعية لثلاث اعتبارات مركزية هي كالتالي: "باعتباره البديل لسلطة الكنيسة على المجتمع من جهة، والبديل لسلطة الدولة الإمبراطورية التي قوامها ثنائية الراعي- الرعية من جهة ثانية، والبديل لهيمنة الأسرة التي تتمثل في الأب الذي يتحول في النظام البطريركي إلى شيخ قبيلة من جهة ثالثة"[iii][5]. فمفهوم (المجتمع المدني) قد ارتبط عضوياً بالتطور الذي شهده المجتمع الأوربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في ميادين التجارة والصناعة والعلم، وبالتالي الاجتماع والسياسة. في ظل هذه التطورات، لم تصمد الكنيسة ومنظومتها الفكرية في وجه زحف التيار العقلاني ربيب فكر الأنوار، وتفككت العائلة بفعل الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي البرجوازي، وحلت محلها الشركات والنقابات والجمعيات ، وهيمنت التجارة ومنطقها ، فتعززت الفردية من جهة ، وساد التبادل والاعتماد المتبادل الذي تؤسسه المصلحة الخاصة من جهة ثانية. وجماع هذه التطورات هي مضمون مصطلح (المجتمع المدني)[iii][6].

مضامين متعددة لمفهوم واحد !
إذا أردنا إعطاء تعريف مبسط لمفهوم (المجتمع المدني) سنقول بأنه "نوع من الحياة الاجتماعية والاقتصادية بمعزل عن وصاية وهيمنة الدولة المباشرة"[iii][7]. أما قاموس أكسفورد الوجيز فيعرِّف (المجتمع المدني) بأنه "مجموعة من الروابط (التجمعات) الوسيطة التي تقع بين الدولة والأسرة الممتدة، والتي يقوم الارتباط فيها على الإنتماء الطوعي"[iii][8]. ولعل القارئ يلمس اشتقاق تعريف (المجتمع المدني) في قاموس أكسفورد الوجيز من التعريف الذي وضعه فردريك هيجل والذي يعد من أكثر التعاريف الرائجة والمعتمدة بين الباحثين. وهناك من الباحثين من ينطلق في تعريفه (للمجتمع المدني) من الصفات الذي حددها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك فيقول "للمجتمع المدني هياكل وتنظيمات تقوم في عملها ووظائفها وكذلك في علاقتها مع الآخرين على منظومة قيمية معينة أهمها الحرية المكفولة للجميع ، وقبول الآخر ، والتعددية والحوار ، والتسامح والتنافس السلمي. هذه القيم هدفها الحدّ من تعاظم النزعة التسلطية للدولة"[iii][9]. ومصطلح (المجتمع المدني) له مرادفات عديدة في الخطاب العربي، منها على سبيل المثال لا الحصر: (المجتمع الأهلي)، (المجتمع المدني الأهلي)، (تجمعات المجتمع المدني الأهلية)، ... إلخ. وقد قام أحد الباحثين بتفكيك أحد هذه المرادفات وهو مصطلح (تجمعات المجتمع المدني الأهلية) فوجده تركيبا يقوم على ثلاثة مفاهيم " أولاً: تجمعات ، أي تكتلات كالجماعات والنقابات ، والجمعيات والروابط والمنتديات. ثانياً: أنها مدنية ، أي ليست تكتلات قبلية أو عنصرية ، تعتمد على علاقات القرابة والنسب ، ولا تكتلات إقليمية ، تعتمد على علاقات المجاورة في الحارة والمساكنة في القرية ، وإنما هي تكتلات تعتمد على التخصص والعمل ، أو الرؤية الاجتماعية والسياسية والثقافية. ثالثاً: أنها أهلية ، أي غير الرسمية/ غير الحكومية ، وقد استقرت كلمة الأهلي ـ في اللغة العربية المعاصرة ـ بهذا المعنى ، وكانت مصطلحاً رائجاً منذ بدايات عصر النهضة ، للتعبير عن تكتلات المجتمع المدني ، ووصف تكتلات المجتمع المدني بالأهلية لا يحدد وظيفتها بأنها غير مدنية، ولا بأنها حداثية أو تقليدية، ولكنه يحدد طبيعتها بأنها غير رسمية ، وهو ما يجنبنا من الإضطراب"[iii][10].

وحتى لا يتشتت القارئ بين هذا الكم من التعريفات، يمكننا أن نجمل القول بأن للمجتمع المدني خاصيتين واضحتين هما، الإستقلالية والتنظيمية. أما الأولى، الإستقلالية، فارتباطها بالمفهوم هو ارتباط عضوي ثابت، أي أنه يستحيل تجريد المفهوم منها، فلابد للمجتمع المدني أن يستقل عن الدولة وعن أي مؤسسة شمولية. أما الثانية، التنظيمية، فارتباطها بالمفهوم هو ارتباط ظرفي، بمعنى أنها صيغة تُنظم المجتمع، أو قالب تنظيمي يطرأ مع بلوغ مجتمع ما من المجتمعات درجة معينة من التعقيد في كافة علاقاته، وهذه الصيغة تستجيب للمرجعية المعتمدة في المجتمع دون أن تتحيز لأيديولوجية أو شكلية معينة.

ظهور التداول العربي للمفهوم؟
من الصعب تحديد بداية ظهور مفهوم (المجتمع المدني) في التداول العربي الحديث، بيد أن تطور الدولة المركزية القطرية في العالم العربي قد وصل إلى مرحلة أضحت فيها الدولة القطرية متسيدة ، بل ومحتكرة لكافة مناحي الحياة. فالدولة في العالم العربي تحتكر زمام المبادرة في جميع المجالات الحياتية، ولها القدرة على التأثير ، سلباً أو إيجابأ، في جميع هذه المجالات. هذا الدور الدولتي المتعاظم أدى إلى إعاقة آليات المحاسبة والمشاركة السياسية والاجتماعية من التشكل، وفي بعض الأحيان، إلى إبطاء عملية الانتقال الديمقراطي في بعض الأقطار العربية. لذلك سعت النخب العربية إلى طرح بعض المفاهيم المستوحاة من الفكر الغربي ، ومفهوم المجتمع المدني أحدها، والتي من شأنها إعادة الاعتبار والحيوية للمجتمع في المشاركة والمحاسبة والتطوير. أضف إلى ذلك أن أدواراً أخرى كان لها فضل في ظهور الوعي بمفهوم (المجتمع المدني)، كانتشار التعليم الحديث ،الأساسي والعالي، على نطاق واسع؛ والاحتكاك بالغرب من خلال التعليم، والتواصل الثقافي معه ؛ وارتباط المصالح العربية/الغربية. في ضوء هذه المعطيات، تولّدت نخب قادرة على التواصل والتفاعل مع العالم الغربي في شتى المناحي البيروقراطية والثقافية والتعليمية. والأهم من ذلك هو أن تعاظم أدوار تلك النخب "الحداثية" ومشاركتها في التطوير والتحديث قد قلص من أدوار النخب التقليدية (شيخ القبيلة، عالم الدين، رئيس الطائفة، ...، إلخ) بصورة لم تعهدها المجتمعات العربية من قبل.
إن ثمة إغراء يجعلنا نسارع لربط هذه الظواهر الاجتماعية الإنسانية شرقا وغربا ببعضها البعض، وذلك من أجل تبسيط فهمها، أو بتعبير الدكتور محمد عابد الجابري، يجعلنا نطابق بين "الاعتبارات المذكورة التي تحدَّدَ بها هذا المفهوم في أوروبا النهضة والأنوار ، وبين الاعتبارات التي تحدده الآن في العالم العربي ... ذلك أن مفهوم المجتمع المدني يعني في تصور النخبة التي ترفعه شعاراً: البديل من المجتمع الذي تهيمن فيه أفكار وتطلعات (رجال الدين) من جهة، والبديل من سلطة الدولة الاستبدادية الشمولية من جهة ثانية، والبديل من النظام القبلي والمجتمع الطائفي الذي تكون فيه الكلمة العليا لشيخ القبيلة أو رئيس الطائفة من جهة ثالثة. غير أن هذه المطابقة سرعان ما يتبين خطأها وخطرها عندما نتنبه إلى ثلاثة أمور: الأول أن كلام المفكرين في أوروبا النهضة والأنوار عن (المجتمع المدني) كان يخص مجتمعات كانت تنتقل فعلاً من المجتمع الزراعي الإقطاعي إلى المجتمع الصناعي الحداثي. والثاني أنه كان جزءاً من سياق تطور تاريخي كان يخضع بكامله للمعطيات الداخلية الذاتية الخاصة بهذا المجتمع الأوروبي أو ذاك، أعني بذلك غياب التأثير السلبي لأي عامل خارجي. والثالث أن كثيرا من المشاكل الداخلية ، الاقتصادية منها والاجتماعية ، التي كان يعانيها المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت ، قد أمكن تجاوزها بفضل التوسع الاستعماري: الهجرة إلى المستعمرات ، موادها الأولية ، عائدات أسواقها ... إلخ. وهذه أمور غائبة تماما بالنسبة إلى العالم العربي الراهن"[iii][11]. إلا أنه بالإضافة إلى خطورة المطابقة التي تحجب الرؤية الموضوعية تماماً (والخطورة التي يتحدث عنها الدكتور الجابري في الإقتباس السابق هي خطورة المطابقة لا خطورة التشابه) تكمن خطورة أخرى وهي نفي الظروف الداخلية الملحة، وإعطاء ذريعة للانطباع الخاطئ القائل بعدم حاجتنا إلى التدافع الفكري والاستفادة من المفاهيم الغربية الناتجة عن فكر النهضة والأنوار الأوروبي!

الموقف الإسلامي من المجتمع المدني: تنافر أم تواؤم!
يُعتبر مفهوم (المجتمع المدني) من المفاهيم الإشكالية في الخطاب الإسلامي بكافة تموجاته. لذلك من الصعب أن نعثر على مقاربة واضحة، ناهيك عن نظرية إسلامية متكاملة عن المجتمع المدني! وغالبا ما يدور الجدل حول المفهوم بين معارضٍ يرى في نشأته وتاريخه ومضمونه الغربي سبباً لنبذه ، وبين مؤيدٍ يحاول توفيق مضمونه بما يتلاءم مع الإسلام ذاته ، أو مع التجربة الإسلامية التاريخية. ومن نافل القول أن أدبيات التوجه الثاني، الساعي إلى التبيئة والتوفيق، تتجاوز بكثير أدبيات التوجه الأول ،الممانع، الذي يرى في مفهوم (المجتمع المدني) مصادمة صريحة للإسلام[iii][12]، وأنه غالباً ما يشكّل بوابة عبور إلى الدولة العلمانية[iii][13]. أحد دعاة التوجه الثاني وهو الدكتور أبوبكر باقادر يرى بأن "جذور المجتمع المدني ، كما هو حالة استقلال أو توازن مع الدولة ، موجودة بكثافة في العمق التاريخي للوعي العربي". ويؤكد هذا القول تحليل وجيه كوثراني الذي يرى أن ثمة قوى أدت أدواراً مهمة في إنعاش مفهوم (المجتمع المدني) بالمفهوم الهيجلي (أنظر تعريف هيجل للمجتمع المدني في فقرة "نشأة المفهوم"). هذه القوى تتمثل في ثلاث منظومات أسماها: "أولا ، الدولة/ الشريعة/ العصبية/ الملة. ثانياً ، التنظيم الحرفي/ الطرق الصوفية/ الأسواق والحارات أو فعاليات المدينة الإسلامية. ثالثاً ، الوقف والخدمات الاجتماعية والعملية"[iii][14]. بيد أن الدكتور أبو بكر باقادر ينقد على الفكر الإسلامي التقليدي تركيزه الأساسي على مسألة الدولة، وتكريس مجهوده في ترسيخ مركزيتها بهدف الحد من من انتشار الفتن والفوضى التي كانت قدر المجتمعات الإسلامية في مراحل عديدة من تاريخها السياسي الطويل[iii][15]. وفيما يتعلق بعدم شيوع المفهوم في الثقافة الإسلامية، وضرورة خلق الظروف الموضوعية التي تساعد على تشكله، يقول الدكتور عبدالله الحامد " إن عدم شيوع المفهوم ولا تحديد عناصره وعدم ظهور تكتلاته ، في أنماط راسخة في الأعراف الاجتماعية ، لا يعني أن الإسلام لم يتبن مبادئ المفهوم ، فضلاً عن أن يتصور أن المفهوم لا ينسجم مع العقيدة الإسلامية. فقيم المجتمع المدني كحقوق الإنسان والديمقراطية ، والحرية ، والعدالة والمساواة وأطرها السياسية: كالدستور والفصل بين السلطات الثلاث ، واستقلال القضاء ، مجموعة مفاهيم أنتجها الغرب ، ولكنها مفاهيم إنسانية ، موجودة الجذور في أي ثقافة ذات حضارة ، ويمكن اليوم لأي ثقافة أن تستدخل المصطلحات الغربية ضمن منظومتها ، وأن تزيد فيها وتعدل وتصهر وتفرز ، حتى تتناسب مع خصوصيتها"[iii][16]. يعزز قول الدكتور الحامد في بعض جوانبه رأي المفكر والرئيس السابق للجمهورية الإيرانية محمد خاتمي إذ يقول "إن عصرنا الحالي هو عصر، هيمنة الحضارة الغربية التي لا مفر من قراءتها قراءة فاعلة تجتاز المظاهر والظواهر وتتوغل في المبادئ النظرية والأسس القيمية لتلك الحضارة، وهذه المعرفة ضرورية على الرغم من إن المحور في المجتمع المدني الذي نطمح إليه هما الفكر والثقافة الاسلامية، إلا أن هذا المجتمع يجب أن يكون خالياً من الاستبداد الفردي والجماعي، بل وبعيداً حتى عن ديكتاتورية الأكثرية .... مجتمعنا المدني، ليس ذلك المجتمع الذي يكون فيه المسلمون وحدهم أصحاب الحق ومواطني النظام، بل هو المجتمع الذي يكون فيه كل انسان يؤمن بالنظام والقانون هو صاحب حق"[iii][17].

يبدو جلياً من هذه الاقتباسات أن الفكر الإسلامي الساعي إلى التبيئة والتوفيق يعي ضرورة (المجتمع المدني) في مستقبل التنمية السياسية والاجتماعية في الأوطان العربية والإسلامية. ولكن لو تأملنا حال الاجتهاد الإسلامي لوجدنا اعتماده الرئيس على آلية تنزيل المفاهيم السياسية والاجتماعية مثل الديمقراطية، والأحزاب السياسية، واستقلال السلطات الثلاث، والمجتمع المدني، على مبدأ (الشورى) الإسلامي. وليس ثمة شك بأن أغلب تلك المفاهيم الحديثة تجسد مبدأ "الشورى" بشكل أو بآخر. وبالتالي يجد الفكر الإسلامي في مفهوم (الشورى)، الرحب والمرن، نقطة انطلاق رئيسية تسهل عليه عملية تأصيل تلك المفاهيم الغربية ضمن المنظومة الإسلامية. إلا أن رد جميع المفاهيم والنظريات الاجتماعية والسياسية الحديثة إلى مبدأ (الشورى) يكشف عن عجز الفكر الإسلامي عن إبداع نظريات إسلامية معاصرة لإشكاليات الدولة والمجتمع في الوقت الراهن. وهنا، سأتوقف، وأدعو القارئ الكريم إلى التأمل معي: لا يكف الفكر الإسلامي عن نبذ التبعية للفكر الغربي، وربط التخلف الحضاري العربي والإسلامي بها، ولكن، ألا يسوغ لنا القول بأن الفكر الإسلامي يكرس تلك التبعية ـ دون أن يشعرـ بعجزه عن إبداع نظريات ومفاهيم تستجيب لحجم التعقيد المحيط بالفضاء السياسي والاجتماعي المعاصر؟ ونحن هنا لا ننفي محورية مبدأ (الشورى) في الفكر الإسلامي، وإنما نحاول الكشف عن مدى عجز الفكر الإسلامي عن استنبات الآليات المساعدة والمجسدة لمبدأ الشورى، وذلك يقود إلى حتمية استيراد الحلول من الفكر الغربي!

عوائق بنيوية أمام التحول الحضاري!
يتحدث الكثير من الباحثين عن العوائق البنيوية التي تعتري مسار (المجتمع المدني)، وتتراوح تلك العوائق بين أشكال شتى، قانونية/سياسية، اجتماعية/فكرية، واقتصادية. أما فيما يتعلق بالبنية القانونية المنظمة لتجمعات المجتمع المدني، ولحريات الأفراد والمؤسسات داخله، فما تزال أغلب الأقطار العربية تراوح بين جدلية "فقدان" منظومة القوانين الوضعية المتعلقة بتنظيم حركة (المجتمع المدني)، وبين "تقييد" منظومة القوانين، على افتراض وجودها ابتداءاً، ووضعها تحت الرقابة الصارمة للمؤسسات الأمنية. أضف إلى المعطى القانوني السياسي معطىً آخر يتحدد في الجانب الفكري الاجتماعي، فالمجتمع المدني في ضوء الممارسة الحالية في الوطن العربي يعاني من إشكالية عدم حسم مسألة التعددية الاجتماعية والسياسية. فثمة استقطاب يطال مفهوم (المجتمع المدني) يتجلى في سعي النخب العربية ـ المحافظة والحداثية ـ إلى الاستحواذ على مفهوم (المجتمع المدني) وحصره على توجه أيديولوجي دون آخر، وتطويعه بطريقة تجعله فاقداً لفاعليته واستقلاليته. وإذا لم تحسم إشكالية التعددية الاجتماعية والسياسية ـ على مستوى النظرية والتطبيق ـ فلن نستطيع كمجتمعات عربية إسلامية من تمهيد الطريق للمجتمع المدني لمراكمة جهوده ، ولن نستطيع أيضاً من إتاحة الفرصة العادلة أمام مؤسساته من تطوير صيغة تتلاءم مع خصوصية الوضع العربي الإسلامي. ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أن تنامي الوعي الاجتماعي يشكل دعامة أساسية من دعائم (المجتمع المدني)، إذ إن العامل الحاسم في تكوين مؤسسات (المجتمع المدني) وتجذرها، هو روح المبادرة لدى المواطنين، والرغبة في الاعتماد على النفس ، بدلاً من الاتكال على الدولة ومؤسساتها الرسمية. إن تنظيمات (المجتمع المدني) في العالم الغربي تتمتع بهامش كبير من النضج والحيوية، إذا ما قورنت مع مثيلاتها في العالم العربي ، وذلك يجعلها في موقع أقدر على مقاومة ضغوط الدولة الرقابية[iii][18]. أما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، فإن نوع الاقتصاد السائد في الأقطار العربية يسيطر عليه قطاعان لا يساعدان على إيجاد ذلك النوع من الاقتصاد الذي تهيمن فيه المؤسسة المستقلة عن الدولة، التي هي الأساس الذي يقوم عليه (المجتمع المدني) ومؤسساته السياسية والثقافية. هذان القطاعان هما: "أسلوب الإنتاج الزراعي غير المصنع، الذي يكرس هيمنة الطابع البدوي القروي في المجتمع، الطابع المناقض بنوع مؤسساته وتقاليده والعقلية السائدة فيه لخصائص (المجتمع المدني)"[iii][19]. و القطاع الثاني هو: "الريع وما في معناه ، أعني الدخل الذي يأتي الدولة ، لا من مسلسل عملية الإنتاج في داخل البلد ، بل من عائدات النفط والعمال المهاجرين والاستغلال لهذا الموقع الاستراتيجي أو ذاك ، والهبات والقروض وعائدات السياحة .... الخ. هذا النوع من الدخل الذي يشكل العنصر الأساسي في اقتصاديات جل الأقطار العربية في الظرف الراهن يقع تحت تصرف الدولة ، أي تحت تصرف الطبقة المسيرة ، تنفق منه في حماية نفسها وتعزيز سلطتها وتقوية أجهزتها ، مما يجعلها مستقلة كلياً ، أو إلى حد كبير ، عن دافعي الضرائب (الذين كانت مطالبتهم في أوروبا بحقهم في مراقبة طريقة صرف الحاكم لأموال الضرائب هي الأصل في الديموقراطية الحديثة). والدولة في العالم العربي تمول بفضل الطابع الريعي للاقتصاد ، وبالطريقة التي تريد ، المشروعات العامة والخدمات الاجتماعية ، فضلاً عن أجور الموظفين ودعم المواد الغذائية ، مما يجعل يدها هي العليا في كل مجال ، عليها تتوقف حياة الأفراد والمؤسسات ، ولا تتوقف هي على أية قوة اقتصادية مستقلة عنها"[iii][20].

إن الموجة الإصلاحية التي تعصف بالأقطار العربية في شتى المجالات الحياتية لا يمكن التنبؤ بمدى جدواها أو فعاليتها في المدى المنظور، ولكن ما يدعو إلى الأمل والترقب هو أن رياح الإصلاح قد أحدثت نقلة كمية ونوعية ملموسة في سقف المطالب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فالحديث عن المجتمع المدني، وتوسيع المشاركة السياسية، والشفافية، والحريات العامة، وتحرير الاقتصاد الوطني، ... إلخ، الذي كان الاقتراب منه في السابق يؤدي بصاحبه إلى العنت والنبذ الاجتماعي والسياسي، أضحى اليوم من المفردات الدارجة على ألسنة الناس. هذه الأحاديث التي تجري في أوساط النخب، وما يصاحبها من جدل يشارك فيه الرأي العام ، ستؤدي بلا شك ، إلى زيادة هامش الوعي بحجم التحديات المطروحة، وسبل تحقيقها. فالمجتمعات العربية تخوض عملية تحول حضارية كبرى، أو برأي الدكتور محمد عابد الجابري "تشهد عملية انتقال من حضارة البادية والقرية وعقليتها وسلوكها ، فضلاً عن اقتصادها، إلى حضارة المدينة التي تهيمن فيها الصناعة والتجارة والخدمات العامة ، من مجتمع المؤسسة الطبيعية (القبيلة وما في معناها) إلى مجتمع المؤسسة العقلانية"[iii][21].
الهوامش:[iii][1]خلدون حسن النقيب، آراء في فقه التخلف: العرب والغرب في عصر العولمة. (بيروت: دار الساقي، 2002) ، ص18
[iii][2] 31أبو بلال عبدالله الحامد ، ثلاثية المجتمع المدني: عن سر نجاح الغرب وإخفاقنا. (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2004) ، ص
[iii][3] محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص178
[iii][4] أبوبكر أحمد باقادر، الاسلام والانثروبولوجيا. (بيروت: دار الهادي، 2004) ، ص162
[iii][5]178 محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص
[iii][6]173 محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص
[iii][7]163 أبوبكر أحمد باقادر، الاسلام والانثروبولوجيا. (بيروت: دار الهادي، 2004) ، ص
[iii][8] Iain Mclean and Alistair McMillan, Oxford Concise Dictionary of Politics. (New York: Oxford University Press, 2004)
[iii][9] Sohail H. Hahmi, Islamic Political Ethics: Civil Society, Pluralism, and Conflict. (New Jersey: Princeton University Press, 2002) , p.3
[iii][10] أبو بلال عبدالله الحامد ، ثلاثية المجتمع المدني: عن سر نجاح الغرب وإخفاقنا. (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2004) ، ص16
[iii][11] محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص179
[iii][12] http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/16.htm سليمان صالح الخراشي، “المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب اللحى الليبرالية.
[iii][13] http://www.saadalbreik.com/modules.php?name=News&file=article&sid=138سعد البريك ، الدولة المدنية.
[iii][14] أبوبكر أحمد باقادر، الاسلام والانثروبولوجيا. (بيروت: دار الهادي، 2004) ، ص168
[iii][15] أبوبكر أحمد باقادر، الاسلام والانثروبولوجيا. (بيروت: دار الهادي، 2004) ، ص170
[iii][16] أبو بلال عبدالله الحامد ، ثلاثية المجتمع المدني: عن سر نجاح الغرب وإخفاقنا. (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2004) ، ص19
[iii][17] http://www.balagh.com/mosoa/tablg/sj0y0e41.htm محمد خاتمي ، المجتمع المدني الإسلامي.
[iii][18] خلدون حسن النقيب ، آراء في فقه التخلف: العرب والغرب في عصر العولمة. (بيروت: دار الساقي، 2002) ، ص23
[iii][19] محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص193
[iii][20] محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص193
[iii][21] محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ، ص198




















المجتمع المدني بين النظرية والتطبيق

شهد القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية تطورات جذرية في بينة التكوينات الاجتماعية ، تترافق هذه التحولات مع ثورة ‏التكنولوجية والمعلوماتية ، التي تعد من الثورات العظمى التي شهدتها المجتمعات البشرية عبر التاريخ . التكنولوجية وثمار التقدم ‏العلمي التي كانت حكراً على الطبقات والنخبة الحاكمة في جميع اشكال الدولة والانظمة الحاكمة . كانت النتيجة هي ازدياد حجم ‏سيادة الدولة على مقدرات المجتمع وخيراته ، من ثم تعيش المجتمعات النامية على الاخص كابوس لا يطاق تحت نير هذه الدول. ‏مع تطور العلم و تطور التكنولوجية والتقنية في اواخر القرن العشرين ، ظهرت تغييرات في مستوى الوعي الاجتماعي والفكري ‏رسخته اكثر الثورة المعلوماتية وفي مقدمتها شبكة الانترنت للاتصالات والمعلومات الدولية التي احدثت انقلاباً ذهنياً حطم احتكار ‏الدولة وسيادتها على العلم والتقدم الفكري ، لتتحرر المقدرة الفكرية للفرد والمجتمع وتؤدي الى نتائج مذهلة جعلتها من اكير ‏الثورات التي عرفها الانسان على مر العصور.‏ونظرية المجتمع المدني كانت احدى النتائج التي خلقتها ثورة التكنولوجية والتقدم العلمي في المجتمعات الانسانية ، لكن الوعي ‏الاجتماعي ازداد اضطراديا مع تسارع هذه التحولات في المجتمع وظهور نقاشات وطروحات نظرية وفكرية حول كيفية تقليص ‏حجم الدولة ًودمقرطة المجتمع لتظهر ارادة المجتمع المدني الى الساحة. يمكن القول ان هذه النظرية تطورت خلال العقدين ‏الاخيرين من القرن العشرين. حيث ارتفع عدد المنظمات المدنية من 6000 منظمة عام 1990 الى حوالي 26000 منظمة مدنية ‏في عام 1999 على شكل منظمات مساعدات وتبرعات خيرية ، منظمات حماية البيئة، مكافحةالالغام والامراض الوبائية ‏المستعصية و مرض الايدز، ومكافحة المخدرات والخ من المنظمات المدنية ، وقد اوردت منظمة التعاون والتنمية في المجال ‏الاقتصادي ان المساعدات الدولية ، التي تم تقديمها عبر منظمات المجتمع المدني قد بلغت حدود 12 بليون دولار في عام 2006.‏‏ مع ازدياد تطورالوعي الثقافي والعلمي والاجتماعي . ازداد تاثير نطاق المجتمع والمنظمات المدنية في مواجهة الاثار السلبية ‏والضرر التي يحدثه نظام الدولة الضخمة على المجتمع والانسان ، التي خلقت بدورها قضايا ومشاكل يتم طرحها ومناقشتها على ‏المستوى العالمي من قبيل قضايا التلوث البيئي و التحرحر العالمي (ارتفاع درجات الحرارة)، التصحر . بالاضافة الى الفقر الذي ‏ظهر بشكل متزايد في البلدان الفقيرة والنامية ووصوله الى ابعاد خطيرة والذي ان دل على شيء ، انما يدل على انعدام التوازن بين ‏البلدان الغنية المتطورة والبلدان الفقيرة النامية . كل هذا يؤول دور منظمات المجتمع المدني المتزايد بشكل كبير والمؤثر على ‏الصعيد الدولي . فما كان اتساع نطاق هذا التأثير حتى ليمتد الى النقاشات التي جرت مناقشتها في قمة الدول الثمانية المتقدمة التي ‏تم عقدها في غلين إيلز باسكتلندا في تموز من عام 2005 .‏تعد منطقة ا لشرق الاوسط من المناطق الساخنة التي مازالت تعاني من ويلات الحروب الدينية – الطائفية والدينية ، وما خلقته من ‏انقسامات في بنية المجتمعات الشرقية ، لذلك كانت سدا وعقبة تعرقل دخول التطورات والتغييرات التي تطرأ على العالم من ‏الدخول الى هذه الساحة . حيث مازالت الدولة ذات القومية والحزب الواحد سائدة و مسيطرة على المجتمع الشرق الاوسطي . اذاُ ‏كيف لنا ان نتحدث عن تطور تجربة المجتمع المدني في هذه المجتمعات ؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من اجراء دراسات وابحاث ‏استراتيجية علمية على اسس عصرية ، لتحليل العوامل التي تعرقل تطور هذه المجتمعات ومواكبتها للعصر ايضاً . لكن قبل ‏الاجابة على هذا السؤال لا بد من طرح السؤال التالي : ما هوتعريف المجتمع والمنظمات المدنية بالنسبة لهذه المنطقة ؟ ان كان ‏التعريف يتمحور حول تعريف كل المؤسسات والمنظمات الغير حكومية والتي تمثل ارادة المجتمع امام نظام الدولة ، عندها هل ‏يمكن التحدث عن مؤسسات ومنظمات حقيقة في منطقة الشرق الاوسط ؟ بلا شك ان هذه الاسئلة الصعبة تتطلب اجراء دراسات ‏علمية عصرية و محايدة الى ابعد الحدود للانظمة والمجتمعات الموجودة .‏‏ بعد انهيار النظام الاستعماري التقليدي المباشر ليخلف خلفه بنية متخلفة لانظمة لم تتجاوزبعد الشكل المتخلف للاقتصاد الزراعي – ‏التجاري الذي تكون تنيجة العلاقات التي لم تتجاوزاثار البنى الاقطاعية – العشائرية الرجعية بعد . بالطبع ان تاثير تطور حركات ‏التحررالوطنية في العالم اثر تاثيراً كبيراً على تطور الحركات القومية العربية التي وجهت ضربة الى الاستعمار العسكري ، ‏وتحرير هذه البلدان كونها كانت مستعمرات تابعة لها . حتى الانظمة القومية التي تشكلت استفادت من التناقضات الموجودة بين ‏القطبين الرئيسيين الرأسمالي – الاشتراكي في العالم ، لهذا لم تتطور كثورات اجتماعية تحدث تحولات جذرية تتجاوز بناها ‏الاجتماعية المتخلفة ومن جميع النواحي ، بل على العكس اخذت ترسخ تدريجياً سيادة وحاكمية الدولة على المجتمع بشكل مستبد ‏تحت ايديولوجية الدولة القومية البعيدة عن روح التعددية الديمقراطية و المعايير الدولية لحقوق الانسان و سيادة القانون . من ‏الصائب اعتبار هذه الدول و الانظمة بانها انظمة ديكتاتورية تنتهج التعصب الديني- القومي كنهج ايديولوجي للمحافظة على ‏ديمومتها ، دون التردد عن التقنع باقنعة الديمقراطية وحقوق الانسان لكي تتلافى الضغط والانتقادات من قبل منظمات حقوق ‏الانسان والديمقراطية العالمية والمجتمع الدولي هذا على الصعيد الخارجي ، اما على الصعيد الداخلي فأنها تعمد كانظمة ‏عسكرتارية الى قمع كل الاراء و التنظيمات التي تتبنى اراء مخالفة و معارضة لنظامها القائم واصفة اياها اما بالارهاب او الخطر ‏على امن الدولة . فهل يمكن هنا التحدث عن منظمات ومجتمع مدني تحت هذه الظروف وهذا النمط من الانظمة ؟ ليس من ‏الصعب من تحديد العراقيل التي تحول دون تجسيد نظرية المجتمع المدني عمليا ان تعرفنا على هذه الحقائق بإدراك سليم و محايد .‏لقد كان للتعصب الديني والقومي الذي وصل الى حدود التناحر و الصراعات الدامية التي لا طائل لها ، الدور الكبير في عرقلة ‏نموالوعي الاجتماعي في المنطقة ، هذا ما يحول دون تكون الظروف الممهدة للتطبيق العملي للطروحات العلمية حول كيفية ‏الوصول الى بناء مجتمع مدني يقلص من سيطرة الدولة وضخامة حجم سيادتها على المجتمع . اذ لا يمكن التحدث عن دور فعال ‏للاطباء والفنانين بشكل خارج عن نطاق تأثير الدولة اوالنظام السائد ، فما بالنا المعارضة لهذا النظام او توجيه اي نوع من ‏الانتقادات له . هناك دورمحدود وضئيل يتم تخصيصه وفق الدساتير والقوانين التي تسنّها الانظمة الشرق- اوسطية للمنظات المدنية ‏‏. عدد غير قليل من المنظمات لايمكنه من تلبية ضرورات بناء المجتمع المدني . انها ام تكون شكلية اومحدودة التأثير لعدم ‏تجاوب الجماهير وشرائح المجتمع معها وذلك لعدم ادراكها لدور هذه المنظمات بالتأثير على مجرى حياتها اليومية وبشكل ‏متواصل.‏لقد بدت محاولات عديدة من المثقفين ومنظمات مدنية عربية لكي تطرح اهم العراقيل التي تعرقل عمل وتطور هذه المنظمات ‏المدنية في المجتمعات العربية على وجه الخصوص . على سبيل المثال يمكن ذكر رؤية من الداخل‎ ‎لإصلاح الانظمة والمجتمعات ‏العربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وذلك من خلال "مؤتمر‎ ‎قضايا الإصلاح العربي" الذي أقيم بمكتبة الإسكندرية في ‏مصر، من 12-14 أذار الماضي: ‏تبلورت الرؤية في "وثيقة الإسكندرية" التي حددت القضايا الأساسية ، وصاغت من خلال لجان، ضمت شرائح متنوعة من ‏المثقفين العرب، الحلول والآليات‎ ‎المطروحة لتنفيذ الإصلاح برؤية من الداخل‎.‎‏ ‏وجاءت "وثيقة الإسكندرية" كمحاولة لترسيخ التجربة العربية امام العديد من‏‎ ‎المبادرات الدولية والإقليمية المطروحة لتحديث ‏منطقة الشرق الأوسط، وما أثارته تلك‎ ‎المبادرات من ردود فعل متباينة في العالم العربي، اتفقت في حدها الأدنى على رفض‎ ‎أفكار ‏التغيير من الخارج . لكن تم الاشارة على الاصلاح السياسي في الوثيقة و ضرورة ان تتجاوز الانظمة العربية التخلف الاجتماعي ‏الموجود واحداث التغيير في دساتيرها يما يتوافق مع معايير الديمقراطية والحقوق الدولية المتعارف عليها ليمكنها بذلك من افساح ‏المجال امام حرية الرأي والتعبير ، وبناء المنظمات المدنية التي تقلص من حجم سيطرة الدولة . اما على الصعيد الاقتصادي تم ‏الاشارة الى ضرورة احداث اصلاحات في شكل وهيكلية الاقتصاد في هذه البلدان من خلال تحسين الاقتصاد و تطوير رؤؤس ‏الاموال والاستثمارات المصرفية و تجاوز البطالة المتزايدة بشكل كبير في هذه البلدان بالاضافة الى التنمية الثقافية والاجتماعية . ‏لكن كل هذا بقي نظريا لم يرى بشكل مجدي حيز التنفيذ والتطبيق لعدة اسباب وعوامل لا يمكن التغافل عنها الا وهي ؛ لا بد من ‏تطوير الوعي الاجتماعي والثقافي والاستفادة من الثورة المعلوماتية والتكنولوجية الحديثة من ناحية ، اما من ناحية اخرى يجب ان ‏يتم تجاوز التعصب الديني والطائفي والقومي وتأثيرها الايديولوجي وذلك بتطوير النهج الكونفدرالي للمجتمع المدني الذي سيكون ‏النهج الناجع والحل للتخلص من مرض التعصب بكافة اشكاله وترسيخ الديمقراطية و مبادئ حقوق الانسان ، التي ستكون ‏المؤسسات الفوقية للمجتمع المدني ومنظماته المتعددة المهام وفي جميع المجالات لا الحصر.‏من المؤكد ان التحليل العلمي العصري لمجتمعات الشرق الاوسط ستؤدي بنا الى معرفة العوامل التي تجعل المجتمع المدني طرحا ‏نظريا بعيداً عن التطبيق العملي ، وسيسهل بدوره درب بناء و تأسيس منظمات مدنية حقيقية وعصرية تتجاوز السلبيات ‏والتخريبات ، التي سببها نظام الدولة على المجتمع واجراء التحولات في بنية الدولة بهدف تقليص مهام الدولة الى حدود تسيير ‏عملية الرفاه الاجتماعي في المجتمع التي تعتبر من احدى المهام الاساسية للدولة تجاه العلاقة الاساسية الا وهي الفرد – المجتمع ‏بدلا من ان تكون جهاز قمعي وسلطوي على المجتمع ومقدراته الحياتية

حول إشكاليات مفهوم المجتمع المدني

حول إشكاليات مفهوم المجتمع المدني
ندوة المجتمع المدني، بيروت تشرين أول 2004
ظهر مفهوم "المجتمع المدني" مع نشوء الدولة القومية ونمو الرأسمالية الحديثة، وتمحور، آنذاك، حول مفهوم "المجتمع البرجوازي" (كما عند هيجل وماركس). لكنه المفهوم اكتسب مدلولات جديدة مع تطور الدولة الحديثة، والتحولات في النظام الدولي، وتأثيرات العولمة الاقتصادية (الرأسمالية) والثورة في الاتصالات ونظم المعلومات. واكتسب المفهوم بعدا أيديولوجيا لربطه بالحركات التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية، في عقد الثمانينات، والتي توجهت نحو تقليص سيطرة الدولة على الاقتصاد والتشكيلات السياسية والحركات الاجتماعية والنقابات والاتحادات النقابية والمهنية.
وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفيتي منح المفهوم بعدا "تنمويا" من خلال منظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فقد باتت هذه تنظر إلى "المجتمع المدني" باعتباره المجال الذي يتيح إشراك المواطنين في "التنمية البشرية المستدامة" بعد أن فشلت التنمية في التحقق في معظم دول العالم الثالث. وكان الدافع وراء إعطاء موقع خاص للمجتمع المدني في عملية "التنمية البشرية" تبني سياسة الخصخصة و"التكييف الهيكلي" – في إطار سيادة اقتصاد السوق – باعتبارها الأنجع للتنمية الاقتصادية. ومنح هذا بعدا جديدا لمفهوم "المجتمع المدني". فهذه السياسية التي روجت لها المؤسسات المالية الدولية، وخطاب "اللبرالية الجديدة" ركزت على حصر دور الدولة في تهيئة بيئة قانونية وبنية تحتية ملائمة لنمو القطاع الخاص باعتباره أداة التنمية الأساسية، مع توفير حد أدنى، بالمشاركة والتنسيق مع منظمات المجتمع المدني، من الرعاية الاجتماعية لأفقر الفقراء (ما يعرف بشبكات الحماية الاجتماعية). ودخلت لاحقا مفردات جديدة على خطاب التنمية خصت بالأساس منظمات المجتمع المدني كالمشاركة والتمكين. لقد منح المجتمع المدني وظيفة حماية الفرد من عسف الدولة وسطوتها. أي منح بعدا واقيا وحاميا للفرد من تدخلات الدولة وتجاوزاتها.
يمكن الإشارة هنا إلى أن الحماية التي توفرها التشكيلات الارثية سواء القرابية (الحمايل والعشائر ) أو الطائفية أو المحلية للفرد من سلطة الدولة، لا تأخذ شكلا واحدا، فهي تمنح للتشكيلات القرابية القوية قدرة أكبر على تجاوز القانون والتأثير على مؤسسات الدولة عبر الواسطة والضغط والتحالف من بعض أجهزتها. كما أن هذه "الحماية" التي قد توفرها هذه التشكيلات للفرد في وجه سطوة أجهزة الدولة أو تقلبات السوق تأتي في العادة على حساب فقدان الفرد لاستقلاليته كفرد له شخصيته الاعتبارية والقانونية المستقلة، وتتعاكس مع مفهوم المواطنة بما هي مجموعة واسعة من الحقوق والواجبات تخص الفرد كفرد ذات شخصية قانونية وإنسانية مستقلة.
يمنح المجتمع المدني في أدبيات مؤسسات التنمية تولي وظيفة باتت شاغرة بعد انسحاب الدولة عن مهمة تقديم خدمات أساسية للمواطنين، بحكم عمليات الخصخصة وسياسة "التكييف البنيوي" وأيديولوجية الليبرالية الجديدة. هذا هو مصدر الحرص على استقلالية "منظمات المجتمع المدني" عن الدولة وعن القطاع الخاص باعتبارها تشكيلات لا تقوم على مبدأ الربح. وهذا هو أساس التعاطي معها كآليات لتوزيع وتخصيص موارد في المجتمع مختلفة ومستقلة عن كل من الدولة ومؤسسات اقتصاد السوق. وهو سر التركيز على دعم المنظمات غير الحكومية التي تقدم خدمات (صحية، وزراعية، وتدريبية وما شابهها)، والاهتمام بالمنظمات الدعاوية المتوجهة إلى التثقيف بالديمقراطية وحقوق الإنسان, وهو سبب إغفال منظمات المجتمع المدني المهتمة بتنظيم الناس وتأطيرهم كالأحزاب السياسية، والنقابات والحركات الاجتماعية ذات الجذور. وهو وراء اختزال المجتمع المدني إلى منظمات غير حكومية.
دخل المجتمع المدني إلى الخطاب السياسي والفكري العربي من باب الحاجة للديمقراطية وحقوق الإنسان، أي من مدخل وضع المجتمع المدني في مواجهة الدولة (وخلق ثنائية المجتمع والدولة وعلاقة تنافر واستبعاد بينها)، وليس من مدخل إعادة تنظيم الدولة والمجتمع المدني باعتبارهما ركيزتين أساسيتين للمواطنة، ولإرساء أسس الديمقراطية السياسية والاجتماعية. فإعادة تنظيم الدولة على أساس فصل السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، وتشريع حرية الرأي والتنظيم والتظاهر على أساس دستور يضمن الحريات المدنية أمور ضرورية لترسيخ المواطنة بما هي حقوق وواجبات. كما أن توسيع دور المجتمع المدني بما هو، بالأساس، أحزاب ونقابات وحركات اجتماعية تستند الحرية المواطن في التنظيم والدفاع عن مصالح ورؤى وانتماءات، هو المدخل لتكريس الديمقراطية كتجسيد لتعددية المصالح والرؤى في المجتمع وحق الأحزاب والقوى المختلفة في التنافس السلمي على السلطة ومن أجل التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
الخلاف حول مضمون المجتمع المدني ووظائفه
لكن مفهوم "المجتمع المدني" - رغم ما بات يتمتع به من رواج في الخطاب الفكري والسياسي العربي– لا يزال يمتلك معاني ودلالات مختلفة من قبل مستخدميه. فالبعض يحدده بالمنظمات والمؤسسات والهيئات التي تقام على أساس طوعي بين المواطنين خارج أطر الدولة والعائلة وعلاقات القرابة (التشكيلات القرابية أو الإرثية أو التي يشير إليها البعض بالتقليدية)/ وما خارج علاقات السوق الرأسمالي. لكن هناك من يصر على وضع التشكيلات القرابية والمحلية (و "التقليدية" بشكل عام)، أو بعض تعبيراتها، ضمن منظمات المجتمع المدني لأنها توفر بعض أشكال الحماية للفرد من بطش السلطة ومن تقلبات وقسوة السوق الرأسمالي. لذا تستثني معظم تعاريف " المجتمع المدني" المؤسسات الاقتصادية القائمة على الربح والمتعلقة مباشرة بعمل وآليات السوق (المؤسسات الاقتصادية والمالية) من إطار المجتمع المدني خلافا للمفهوم الكلاسيكي الذي شمل العلاقات الاقتصادية ضمن المفهوم. هذا مع العلم أن المنظمات المدنية لا تستطيع أن تتجاهل اقتصاد السوق الرأسمالي ولا تأثيراته.
كما يستثني البعض الأحزاب السياسية من تشكيل المجتمع المدني لافتراض أنها تسعى للوصول إلى السلطة (الحكومة)، في حين يصر البعض الآخر على مركزية دورها في المجتمع المدني كونها لا تسعى إلى استلام السلطة فقط، بل لأنها تطرح برامج اجتماعية واقتصادية وتعليمية وغيرها، وبعضها أصغر من أن يأمل للوصول إلى السلطة بل يسعى إلى التأثير على سياسة الحكومة أو الدفاع عن مصالح وتطلعات أقليات قومية أو أثنية أو دينية أو فئات اجتماعية معينة. ولذا يستثني البعض الأحزاب الحاكمة من المجتمع المدني، ويعتبر أحزاب المعارضة من ضمنه. وربما يكون هذا وراء اختزال الدولة في الأدبيات العربية إلى الحكومة (أي إلى السلطة التنفيذية) وتجاهل، لاعتبارات عدة، السلطة التشريعية والسلطة القضائية، حتى عندما يكون لهذه وتلك درجة من الاستقلالية والتأثير.
كما ما زال جدل يدور حول ما إذا كانت التشكيلات القائمة على أساس الدين أو الطائفة أو الانتماء الأثني تشكل جزءا من المجتمع المدني أم ينبغي استثناؤها منه. فالبعض يرى أنها من صلب المجتمع المدني، باعتبارها، في أحيان كثيرة، تسعى إلى التغيير والدفاع عن حقوق وتطلعات فئات واسعة في المجتمع، وتضغط على مراكز القرار، وأحيانا توجه سهامها نحو لاإنسانية السوق الرأسمالي وعجزه عن التنمية الفعلية والعادلة والمتوازنة. في حين يرفض البعض عضويتها في المجتمع المدني بحكم القيود التي تضعها على الانتماء إليها، واقترابها، في هذا المجال، من المنظمات الإرثية، ولكونها تتناقض مع مبدأ المواطنة الذي لا يقوم على الدين أو الجنس أو العرق أو الانتماء الجهوي أو الأثني.
التباين والاختلاف في تحديد تخوم ومكونات المجتمع المدني يعود، في جانب منه، إلى اعتماد مفهوم ذي بعد واحد معزول عن سياق محدد تاريخيا ومجتمعيا. كما يعود إلى الخلط بين ما تقوم به مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني من وظائف مختلفة، وتباين هياكلها الداخلية (المتنوعة كذلك)، وبين شروط قيامها واستدامتها. ومن هنا فالتعريف القانوني الذي يصنف منظمات المجتمع المدني باعتبارها منظمات خيرية وتعمل للصالح العام قد يستثني تشكيلات هامة كالأحزاب السياسية التي تخضع في تكوينها وأهدافها وعضويتها، عادة، لاعتبارات وشروط معينة وقد تجد نفسها، في ظروف معينة، مضطرة للعمل السري. كما يستثني النقابات والاتحادات التي تخضع في أهدافها وشروط عضويتها لاعتبارات مختلفة عن الأحزاب وعن المنظمات الأهلية الخيرية والدعاوية والتنموية والثقافية والرياضية.
ويواجه التعريف الذي يركز فقط على الجانب الاختياري أو التطوعي في العضوية نفس الإشكالية. فمنظمات المجتمع المدني تتباين كثيرا من حيث درجة انفتاح عضويتها؛ فبعضها كالنوادي الخاصة يشترط رسوم اشتراك واهتمامات معينة، وبعضها كمؤسسات البحث والجامعات والمعاهد الأهلية يشترط مؤهلات أكاديمية وعلمية وتخصصية معينة، وتفرغ للعمل المدفوع الأجر. وتضع النقابات المهنية شروطا للعضوية وتحصرها في مجموعات وفئات مهنية. وتتطلب الأحزاب عادة الموافقة على برنامج الحزب ونظامه الداخلي. وهناك روابط كالجمعيات والروابط والمؤسسات الدينية أو الطائفية التي تعمل وفق رؤية دينية محددة في مجال التنمية وحقوق الإنسان، وهناك الجمعيات الخيرية والإغاثية التي تعتمد، إلى هذا الحد أو ذاك، على العمل التطوعي لكن تشمل عددا من المتفرغين والموظفين. باختصار ليست التطوعية غير المقيدة هي السمة الغالبة لعدد غير قليل من منظمات "المجتمع المدني" التي تضع شروطا على عضويتها. ومن هنا فإن التعاطي مع المجتمع المدني وكأنه جسم قائم بذاته أو مترابط أو موحد يقود إلى استنتاجات وتصورات خاطئة.
المجتمع المدني هو تشييد فكري يجمع بين تضامنيات شديدة التباين (من حيث الأهداف والقاعدة الاجتماعية وشكل التنظيم ومصادر التمويل) التي تقام خارج مؤسسات الدولة والسوق والروابط الإرثية. والسؤال هو هل هذا المفهوم يشكل أداة تحليلية مفيدة رغم الخلاف على ما يدخل في مكوناتها؟
منظمات المجتمع المدني والتمايز عن الدولة والسوق
هناك ما يميز منظمات المجتمع المدني عن مؤسسات الدولة أو مؤسسات اقتصاد السوق (شركات، مصانع، ورش، بنوك، مطاعم، مشاريع خدماتية مختلفة، وما شابه). ولعل أبرز ما يميز المنظمات المدنية عن الدولة والسوق يكمن في طبيعة العلاقة التي تقيمها مع جمهورها. وهي علاقة تفترض امتلاك هذه المنظمات ليس مجرد درجة عالية من الاستقلالية في إدارة شؤونها وفي صياغة خططها ونشاطاتها وفي محرك علاقتها مع الجمهور (فهذه الاستقلالية قد تكون متوفرة في مؤسسات القطاعين الخاص والعام)، بل تتمايز في شكل ومضمون العلاقة التي تقيمها مع جمهورها. ولا تتعامل معه من موقع العلاقة بين المؤسسة والفرد وفق إجراءات وقوانين وقواعد مقننة (كما يفترض أن تتعامل معه الدولة). بل تتعامل معه بالأساس كجمهور مكون من فئات متباينة المصالح والاهتمامات والاحتياجات والتكوين (من حيث الجنس والعمر)، من موقع تمثيل هذه المصالح ، ومن موقع الحرص على إشراك الجمهور في تنظيم نفسه وفي الدفاع عن حقوقه الجمهور ورعاية احتياجاته الخاصة..
ويشرّع استقلالية المنظمات المدنية في إدارة شؤونها الداخلية وصياغة برامجها وخطط عملها القوانين مشرّعة. وهذه القوانين تحددها موازين قوى اجتماعية وسياسية، وتتأثر بعوامل إقليمية ودولية. ويحدد مضمونها وتطبيقاتها كقوانين حامية للحريات العامة ديمقراطية النظام السياسي، والقوة التفاوضية لمنظمات المجتمع المدني الرئيسة، والتي تحددها فعالية واتساع القاعدة الجماهيرية لهذه المنظمات وطبيعة العلاقة التي تقيمها معها (قدرتها التعبوية). فبعض منظمات المجتمع المدني - في مجال العمل السياسي الحزبي، على سبيل المثال - قد يحظر عليه النشاط العلني. وفي هذه الحالة يتحدد تأثير مثل هذه المنظمات وفعاليتها بمدى تأييدها ودعمها من الجمهور، ودرجة القمع الذي تتعرض له من السلطة المركزية أو السلطة المهيمنة (وطنية كانت أم أجنبية). ومن الواضح أن قدرة منظمات المجتمع المدني على التواصل والتجدد مرتبطة، من بين عوامل أخرى، بقدرتها على تلبية حاجات وتطلعات اجتماعية وبقدرتها على تمثيل مصالح فئات اجتماعية ودورها التعبوي والتنظيمي.كما تتصل بقدرتها على حشد الموارد الضرورية لمواصلة وتوسيع نشاطها. ويمكن القول أن منظمات المجتمع المدني تستمد مبرر وجودها وشرعيتها، بالأساس،من علاقتها الخاصة بجمهورها وعلاقته بها، وشكل هذه العلاقة التي قد تستند إلى ما توفره من خدمات مادية أو تأهيلية، أو إلى قدراتها التنظيمية والتعبوية في الدفاع عن حقوق ومصالح هذا الجمهور، وإلى فعالية نشاطها السياسي أو الاجتماعي أو الفكري أو الثقافي.
من هنا يمكن القول أن ما يميز، وإن بشكل عام جدا، منظمات المجتمع المدني، بتنوعها الشديد، عن مؤسسات الدولة (التنفيذية والتشريعية والقضائية) يتمحور حول طبيعة نشاطها، وما يفرزه من أنماط تنظيمية متنوعة. فالعلاقة بين المواطن والدولة الوطنية العصرية هي علاقة تعاقدية، مقننة، عادة، في دستور أو قوانين أساسية، تتجسد في واجبات محددة (دفع ضرائب، خدمة وطنية، احترام القانون…). كما تتجسد في حقوق (حق التنظيم والتعبير عن الرأي والمعتقد، والوصول إلى خدمات أساسية، الخ).
وتتمايز علاقات المنظمات المدنية مع الجمهور عن علاقته بالمؤسسات الاقتصادية والمالية المرتبطة بآليات السوق الرأسمالي والقائمة على الربح وإنتاج سلع وخدمات مختلفة موجهة للسوق، فهذه المؤسسات (مؤسسات القطاع الخاص) تتعامل معه كمستهلك أو كموظف أو أجير، أو في أحسن الأحوال كمستثمر. فمحرك عمل وهدف منظمات المجتمع المدني ليس الربح أو تطوير آليات السوق الرأسمالي. فهو محرك يتحدد وفق تنوع منظمات المجتمع المدني (عمل الخير، الإغاثة، التنمية، التأهيل، التنوير، الرعاية، التضامن الاجتماعي، التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي …). أي أن مجالات منظمات المجتمع المدني هي تلك المجالات التي لا تخضع لإدارة وتوجيه مؤسسات الدولة وتنظيمها، وتعتمد إدارات مستقلة يخضع دورها وأشخاصها وبرامجها وخططها، نظريا على الأقل، لموافقة وتوجهات ومساءلة الأعضاء والجمهور المعني. كما لا تخضع نشاطاتها لاعتبارات وآليات السوق، وإن كانت غير معزولة عنه. ولعل هذا الاعتبار كان وراء اعتبار المجتمع المدني، عند مفكرين مثل غرامشي، المجال الذي يجري فيه الصراع على الهيمنة القائمة على الاقتناع وليس على السيطرة.
يمكن النظر إلى منظمات المجتمع المدني (والأهلي) من منظور وظائفي. أي من حيث ما قد توفره من حماية إزاء تعسف أو تجاوزات السلطة المركزية، وكذلك إزاء ما تفرزه آليات السوق الرأسمالي من استثناء ولامساواة وتهميش. لكن من وظائف منظمات المجتمع المدني أن توفر الحماية للفرد ضد عسف أو قمع أو تجاوزات بعضها البعض بما في ذلك تعسف المنظمات الأرثية (العشائرية والطائفية والمحلية). وتجدر الإشارة هنا أن من وظائف الدولة الديمقراطية توفير الحماية للمواطن من تجاوزات لحقوقه قد تقوم بعض منظمات المجتمع المدني أو الأهلي.
برز الاهتمام بالمنظمات المدنية باعتبارها وسائط للتنمية في العقدين الأخيرين. وترافق ظهور هذه توجه المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ..) نحو الخصخصة، والتكييف الهيكلي وتقليص دور الدولة الاقتصادي في إطار تهيئة المناخ ا لنمو القطاع الخاص، وتقليص خدمات الدولة الاجتماعية للمواطنين. ومن هنا بات ينظر إلى المنظمات الأهلية كوسائط للتنمية المحلية وتولي وظائف "دولة الرعاية"في مجال توفير خدمات أساسية للمواطنين. وتم تسويغ هذا التوجه عبر مقولة أن حرية تشكيل منظمات مدنية هي صلب حقوق الإنسان. واعتبار أن هذا الحق يتجسد في تشكيل الروابط والمنظمات والمؤسسات الهادفة إلى تحسين مستويات المعيشة، والمطالبة بتنفيذ برامج وخطط وقوانين معينة، والدفاع عن مصالح وحقوق الفئات الاجتماعية المختلفة. ومن هنا فكرة مشاركة الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني ( القطاعات الثلاثة) في عمليات التنمية. ونجد في هذه التوجهات تفسير الاهتمام الدولي (الغربي الحكومي والمدني المحلي) في تشجيع وتمويل العديد من المنظمات غير الحكومية في دول العالم الثالث، بما فيها العالم العربي، باعتبارها أقل عرضة للفساد والهدر من المؤسسات الحكومية وأقدر على الضغط على هذه ومراقبتها. ويترتب على التمويل الخارجي لقطاع من المنظمات المدنية تساؤلات تتعلق بتأثير "أجندا" الجهات المانحة على برامج المنظمات المدنية المستقبلة، كما على قدرتها على إدامة نفسها، وعلى التمتع باستقلالية برنامجية ومالية.
"المجتمع المدني" في الفكر العربي: غياب الاقتصاد والسياسة
يهيمن على الأدبيات العربية المتداولة حاليا، موقفا قوامه أن المجتمع المدني هو شرط قيام نظم ديمقراطية وضمانة ترسخ الحريات السياسية والحقوق المدنية وتجسيدها. لكن هذا الرأي ينضوي على تبسيط مضلل للعلاقة لكل من الدولة والمجتمع المدني. فهو يقفز عن حقيقة أن لا مضمون للمجتمع المدني بدون حضور الدولة. وهو يختزل الدولة إلى الحكومة (السلطة التنفيذية)، متجاهلا (غياب أو حضور) كل من السلطتين التشريعية والقضائية. كما ينظر للدولة كجسم متجانس وموحد دون توترات وصراعات وتباينات. كما ينظر إلى المجتمع كجسم موحد وتناسق الوظائف والمهام دون توترات وصراعات وانقسامات.
وهي رؤية تتجاهل التنوع الشديد في منظمات المجتمع المدني من حيث وظائفها والفئات الاجتماعية التي تتوجه إليها أو تسعى لتمثيلها أو لتنظيمها، ومن حيث مصادر تمويلها، وفلسفتها ، وبنيتها الداخلية، وظروف نشأتها. كما تميل هذه الرؤية إلى وضع المنظمات المدنية خارج المجتمع عبر النظر إليها كأجسام تقدم خدمات أو تتولى نشاطات تنموية أو خيرية أو تقوم بتنظيم وتأطير جمهور معين أو تمارس نشاطات دفاعية وإعلامية من فوق أو من جانب أو خلف المجتمع. أي أنها لا تنظر إلى المنظمات المدنية كجزء من تشكيلة مجتمعية بتكويناتها الاجتماعية السياسية والاقتصادية والثقافية، وباعتبار هذه التشكيلة تقييم في فضاءات سياسية-اقتصادية إقليمية ودولية لها استحقاقاتها وتفاعلاتها وتناقضاتها.
كما تميل مثل هذه الرؤية للمجتمع المدني إلى إختزال وتنميط علاقاته بالدولة. وهي علاقات تأخذ، في الواقع، أشكالا متنوعة ومتغيرة ومعقدة في معظم الأحيان. ويسري هذا الميل للتنميط التبسيطي على علاقة منظمات المجتمع المدني مع بعضها البعض. وهذه علاقات تتنوع في العادة لتشمل التنسيق أو التنافس أو الصراع وفق نشاطها وفلسفتها لدورها ومصادر تمويلها وتكوين وحجم قاعدتها الاجتماعية.
تختزل معالجة علاقة الدولة بمنظمات المجتمع المدني، إلى علاقاتها بما يعرّف بـ "المنظمات غير الحكومية"، مما يستثني، أو يساوي في الدور، منظمات "مجتمع مدني" أخرى ذات أهمية خاصة لمفهوم المواطنة كالأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات الشعبية والمهنية والحركات الاجتماعية الأخرى، بالإضافة إلى الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى والغرف التجارية والصناعية والجامعات والمعاهد العليا. أي أن منطلق بحث العلاقة يستدعي إدراك تنوع منظمات المجتمع المدني، وأبعاد هذا التنوع على العلاقة مع السلطة المركزية. كما يتطلب إدراك التغير الذي تدخله الدولة على الحقل السياسي الوطني في مجال المؤسسات الرسمية و الإدارات العامة والأجهزة الأمنية والعسكرية، والنظام القضائي والتشريعي. وما تفعله هذه من تحولات في البنية الاقتصادية للمجتمع، ليس فقط من حيث أنها (أي الدولة) تشغل نسب متفاوتة (وعالية في معظم الدول العربية)، من القوى العاملة، بل وكذلك من حيث فعلها في الاقتصاد الوطني وبنيته، من حيث حجم ودور وسمات القطاع الخاص. أي أن الدولة القومية أو الحديثة لها وقع تراكمي على تشكل البنية الطبقية والاجتماعية، ولهذه تأثيرها على تكوين المجتمع المدني (أحزاب، نقابات، غرف تجارية وصناعية، منظمات خيرية) وكثافته.
كما أن بنية الاقتصاد الوطني وموقعه في شبكة العلاقات الاقتصادية الإقليمية والدولية له تأثيراته القوية على منظمات المجتمع المدني وكثافة حضورها ومجالات هذا الحضور والمصالح التي تمثلها المنظمات المدنية ومراكز القوى التي تستند إليها وموازينها، وأشكال الصراع و التفاوض التي تجري بين هذه لتحديد قوانين اللعب في الحقل السياسي، وبالتالي شكل نظام الحكم. والعلاقة بين مراكز القوى في المجتمع وموازينها هي التي تحدد، في المحصلة، ديمقراطية أو لاديمقراطية النظام السياسي، وليس عدد المنظمات المدنية أو مجموع ما تقوم به من وظائف.

المواطنة بين الدولة والمجتمع المدني
من العبث البحث عن مفهوم واحد قادر على حصر تنوع منظمات "المجتمع المدني" في شكل أو وظيفة أو نمط واحد. فهذه تعمل في مجالات مختلفة وتحمل رؤى متباينة لدورها، وتعتمد وسائل عمل وعلاقات مع الجمهور (وهو جمهور متنوع من حيث المصالح والاحتياجات والمطامح والرؤى المجتمعية) وهيكليات ومصادر تمويل شديدة التنوع. ولذا فإن أية محاولة لاختزال منظمات المجتمع المدني لنمط واحد أو تلبيسها رؤية موحدة أو تصور أسلوب عمل واحد لها، سيكون مصيرها تبديد المكون الأساسي لما يُعرّف بالمجتمع المدني، باعتباره الحقل الذي تتمثل فيه وتنافس وتتعايش تعبيرات ورؤى اجتماعية وفكرية وسياسية متعددة ومتباينة، وأحيانا متناقضة أو متعارضة، بحكم التكوين المعقد والمركب والمتباين لتشكيلية الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية لأي مجتمع إنساني، بما فيها مجتمعاتنا العربية المتباينة في تكوين أنظمة الحكمة فيها وفي تركيبتها السياسية والاجتماعية، وبنيتها الاقتصادية وحجم ومصادر مواردها رغم ما هو مشترك على الصعيد الثقافي والتاريخي واللغوي.
أرى أن الهم المركزي عربيا ينبغي أن ينصب على دمقرطة بنية الدولة الوطنية بما يؤصل المواطنة (القائمة أساسا على سيادة القانون ومساواة الجميع أمامه). ومن هنا تصبح مساءلة مؤسسات "المجتمع المدني" – باعتبارها المجال الذي يعبر فيه المواطنين عن حقهم، بل ومسئوليتهم، في إقامة والانتماء إلى الروابط والتضامنيات والجمعيات والأحزاب والنقابات والاتحادات - تنصب على دورها في تجسيد المواطنة وتوسيعه ليشمل ليس الحقوق السياسية فقط بل والحقوق الاجتماعية. وهنا سنجد أن مؤسسات المجتمع المدني تتباين كثيرا فيعضها يسعى بعضها للتغيير الاجتماعي لصالح مجالات الحرية، وتوسيع وتكريس العدالة الاجتماعية والتضامن المجتمعي، يعمل بعضها الآخر لصالح إعادة النتاج نظم قائمة على سلب أسس المواطنة تحت مسميات مختلفة كالحفاظ على التراث والأصالة والخصوصية ولمواصلة التعامل مع المواطنين كرعايا أو كانتماءات عشائرية أو جهوية أو أثنية أو طائفية...
قد يكون الأجدى الاستغناء عن تعبير المجتمع المدني والعودة إلى المفاهيم الكلاسيكية في التحليل الاجتماعي عن أحزاب (حاكمة وأحزاب معارضة) واتحادات ونقابات وحركات اجتماعية ومنظمات مدنية حقوقية وخيرية وتنموية وعن بنى اجتماعية واقتصادية وثقافية وانقسامات طبقية وأثنية و حضرية-ريفية، الخ في المجتمع. وهذا يعني العودة إلى التحليل الملموس للواقع الملموس في كل مجتمع عربي دون الحديث العام المجرد.. وهذا ما يتيح فهم خصوصيات ديناميكيات كل مجتمع عربي، والديناميكات المشتركة بينها وأين تتجه...
فطبيعة التحديات التي تواجه المجتمع العراقي وقواه السياسية والمدنية ، والمجتمع الفلسطيني، تختلف عن تلك التي تواجه المجتمع السوداني، أو اللبناني أو السوري، والأخيرة تختلف عن ما يواجه المجتمع السعودي أو اليمني أو المغربي، وهكذا... إن العودة إلى المفاهيم الكلاسيكية والمجربة في التحليل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي قد يحرر هذا التحليل من القيود الفكرية والأيديولوجية والقيمية التي بات مفهوم المجتمع المدني مثقل بها في الحقل المفاهيمي العربي. ولعل من الملفت أن قليلة جدا هي الدراسات السوسيولوجية التي تحلل المجتمعات الأوروبية والمتقدمة اقتصاديا تستخدم مفهوم المجتمع المدني..
رام الله، تشرين أول/اكتوبر 2004