الاثنين، 15 سبتمبر 2008

حول إشكاليات مفهوم المجتمع المدني

حول إشكاليات مفهوم المجتمع المدني
ندوة المجتمع المدني، بيروت تشرين أول 2004
ظهر مفهوم "المجتمع المدني" مع نشوء الدولة القومية ونمو الرأسمالية الحديثة، وتمحور، آنذاك، حول مفهوم "المجتمع البرجوازي" (كما عند هيجل وماركس). لكنه المفهوم اكتسب مدلولات جديدة مع تطور الدولة الحديثة، والتحولات في النظام الدولي، وتأثيرات العولمة الاقتصادية (الرأسمالية) والثورة في الاتصالات ونظم المعلومات. واكتسب المفهوم بعدا أيديولوجيا لربطه بالحركات التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية، في عقد الثمانينات، والتي توجهت نحو تقليص سيطرة الدولة على الاقتصاد والتشكيلات السياسية والحركات الاجتماعية والنقابات والاتحادات النقابية والمهنية.
وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفيتي منح المفهوم بعدا "تنمويا" من خلال منظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فقد باتت هذه تنظر إلى "المجتمع المدني" باعتباره المجال الذي يتيح إشراك المواطنين في "التنمية البشرية المستدامة" بعد أن فشلت التنمية في التحقق في معظم دول العالم الثالث. وكان الدافع وراء إعطاء موقع خاص للمجتمع المدني في عملية "التنمية البشرية" تبني سياسة الخصخصة و"التكييف الهيكلي" – في إطار سيادة اقتصاد السوق – باعتبارها الأنجع للتنمية الاقتصادية. ومنح هذا بعدا جديدا لمفهوم "المجتمع المدني". فهذه السياسية التي روجت لها المؤسسات المالية الدولية، وخطاب "اللبرالية الجديدة" ركزت على حصر دور الدولة في تهيئة بيئة قانونية وبنية تحتية ملائمة لنمو القطاع الخاص باعتباره أداة التنمية الأساسية، مع توفير حد أدنى، بالمشاركة والتنسيق مع منظمات المجتمع المدني، من الرعاية الاجتماعية لأفقر الفقراء (ما يعرف بشبكات الحماية الاجتماعية). ودخلت لاحقا مفردات جديدة على خطاب التنمية خصت بالأساس منظمات المجتمع المدني كالمشاركة والتمكين. لقد منح المجتمع المدني وظيفة حماية الفرد من عسف الدولة وسطوتها. أي منح بعدا واقيا وحاميا للفرد من تدخلات الدولة وتجاوزاتها.
يمكن الإشارة هنا إلى أن الحماية التي توفرها التشكيلات الارثية سواء القرابية (الحمايل والعشائر ) أو الطائفية أو المحلية للفرد من سلطة الدولة، لا تأخذ شكلا واحدا، فهي تمنح للتشكيلات القرابية القوية قدرة أكبر على تجاوز القانون والتأثير على مؤسسات الدولة عبر الواسطة والضغط والتحالف من بعض أجهزتها. كما أن هذه "الحماية" التي قد توفرها هذه التشكيلات للفرد في وجه سطوة أجهزة الدولة أو تقلبات السوق تأتي في العادة على حساب فقدان الفرد لاستقلاليته كفرد له شخصيته الاعتبارية والقانونية المستقلة، وتتعاكس مع مفهوم المواطنة بما هي مجموعة واسعة من الحقوق والواجبات تخص الفرد كفرد ذات شخصية قانونية وإنسانية مستقلة.
يمنح المجتمع المدني في أدبيات مؤسسات التنمية تولي وظيفة باتت شاغرة بعد انسحاب الدولة عن مهمة تقديم خدمات أساسية للمواطنين، بحكم عمليات الخصخصة وسياسة "التكييف البنيوي" وأيديولوجية الليبرالية الجديدة. هذا هو مصدر الحرص على استقلالية "منظمات المجتمع المدني" عن الدولة وعن القطاع الخاص باعتبارها تشكيلات لا تقوم على مبدأ الربح. وهذا هو أساس التعاطي معها كآليات لتوزيع وتخصيص موارد في المجتمع مختلفة ومستقلة عن كل من الدولة ومؤسسات اقتصاد السوق. وهو سر التركيز على دعم المنظمات غير الحكومية التي تقدم خدمات (صحية، وزراعية، وتدريبية وما شابهها)، والاهتمام بالمنظمات الدعاوية المتوجهة إلى التثقيف بالديمقراطية وحقوق الإنسان, وهو سبب إغفال منظمات المجتمع المدني المهتمة بتنظيم الناس وتأطيرهم كالأحزاب السياسية، والنقابات والحركات الاجتماعية ذات الجذور. وهو وراء اختزال المجتمع المدني إلى منظمات غير حكومية.
دخل المجتمع المدني إلى الخطاب السياسي والفكري العربي من باب الحاجة للديمقراطية وحقوق الإنسان، أي من مدخل وضع المجتمع المدني في مواجهة الدولة (وخلق ثنائية المجتمع والدولة وعلاقة تنافر واستبعاد بينها)، وليس من مدخل إعادة تنظيم الدولة والمجتمع المدني باعتبارهما ركيزتين أساسيتين للمواطنة، ولإرساء أسس الديمقراطية السياسية والاجتماعية. فإعادة تنظيم الدولة على أساس فصل السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، وتشريع حرية الرأي والتنظيم والتظاهر على أساس دستور يضمن الحريات المدنية أمور ضرورية لترسيخ المواطنة بما هي حقوق وواجبات. كما أن توسيع دور المجتمع المدني بما هو، بالأساس، أحزاب ونقابات وحركات اجتماعية تستند الحرية المواطن في التنظيم والدفاع عن مصالح ورؤى وانتماءات، هو المدخل لتكريس الديمقراطية كتجسيد لتعددية المصالح والرؤى في المجتمع وحق الأحزاب والقوى المختلفة في التنافس السلمي على السلطة ومن أجل التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
الخلاف حول مضمون المجتمع المدني ووظائفه
لكن مفهوم "المجتمع المدني" - رغم ما بات يتمتع به من رواج في الخطاب الفكري والسياسي العربي– لا يزال يمتلك معاني ودلالات مختلفة من قبل مستخدميه. فالبعض يحدده بالمنظمات والمؤسسات والهيئات التي تقام على أساس طوعي بين المواطنين خارج أطر الدولة والعائلة وعلاقات القرابة (التشكيلات القرابية أو الإرثية أو التي يشير إليها البعض بالتقليدية)/ وما خارج علاقات السوق الرأسمالي. لكن هناك من يصر على وضع التشكيلات القرابية والمحلية (و "التقليدية" بشكل عام)، أو بعض تعبيراتها، ضمن منظمات المجتمع المدني لأنها توفر بعض أشكال الحماية للفرد من بطش السلطة ومن تقلبات وقسوة السوق الرأسمالي. لذا تستثني معظم تعاريف " المجتمع المدني" المؤسسات الاقتصادية القائمة على الربح والمتعلقة مباشرة بعمل وآليات السوق (المؤسسات الاقتصادية والمالية) من إطار المجتمع المدني خلافا للمفهوم الكلاسيكي الذي شمل العلاقات الاقتصادية ضمن المفهوم. هذا مع العلم أن المنظمات المدنية لا تستطيع أن تتجاهل اقتصاد السوق الرأسمالي ولا تأثيراته.
كما يستثني البعض الأحزاب السياسية من تشكيل المجتمع المدني لافتراض أنها تسعى للوصول إلى السلطة (الحكومة)، في حين يصر البعض الآخر على مركزية دورها في المجتمع المدني كونها لا تسعى إلى استلام السلطة فقط، بل لأنها تطرح برامج اجتماعية واقتصادية وتعليمية وغيرها، وبعضها أصغر من أن يأمل للوصول إلى السلطة بل يسعى إلى التأثير على سياسة الحكومة أو الدفاع عن مصالح وتطلعات أقليات قومية أو أثنية أو دينية أو فئات اجتماعية معينة. ولذا يستثني البعض الأحزاب الحاكمة من المجتمع المدني، ويعتبر أحزاب المعارضة من ضمنه. وربما يكون هذا وراء اختزال الدولة في الأدبيات العربية إلى الحكومة (أي إلى السلطة التنفيذية) وتجاهل، لاعتبارات عدة، السلطة التشريعية والسلطة القضائية، حتى عندما يكون لهذه وتلك درجة من الاستقلالية والتأثير.
كما ما زال جدل يدور حول ما إذا كانت التشكيلات القائمة على أساس الدين أو الطائفة أو الانتماء الأثني تشكل جزءا من المجتمع المدني أم ينبغي استثناؤها منه. فالبعض يرى أنها من صلب المجتمع المدني، باعتبارها، في أحيان كثيرة، تسعى إلى التغيير والدفاع عن حقوق وتطلعات فئات واسعة في المجتمع، وتضغط على مراكز القرار، وأحيانا توجه سهامها نحو لاإنسانية السوق الرأسمالي وعجزه عن التنمية الفعلية والعادلة والمتوازنة. في حين يرفض البعض عضويتها في المجتمع المدني بحكم القيود التي تضعها على الانتماء إليها، واقترابها، في هذا المجال، من المنظمات الإرثية، ولكونها تتناقض مع مبدأ المواطنة الذي لا يقوم على الدين أو الجنس أو العرق أو الانتماء الجهوي أو الأثني.
التباين والاختلاف في تحديد تخوم ومكونات المجتمع المدني يعود، في جانب منه، إلى اعتماد مفهوم ذي بعد واحد معزول عن سياق محدد تاريخيا ومجتمعيا. كما يعود إلى الخلط بين ما تقوم به مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني من وظائف مختلفة، وتباين هياكلها الداخلية (المتنوعة كذلك)، وبين شروط قيامها واستدامتها. ومن هنا فالتعريف القانوني الذي يصنف منظمات المجتمع المدني باعتبارها منظمات خيرية وتعمل للصالح العام قد يستثني تشكيلات هامة كالأحزاب السياسية التي تخضع في تكوينها وأهدافها وعضويتها، عادة، لاعتبارات وشروط معينة وقد تجد نفسها، في ظروف معينة، مضطرة للعمل السري. كما يستثني النقابات والاتحادات التي تخضع في أهدافها وشروط عضويتها لاعتبارات مختلفة عن الأحزاب وعن المنظمات الأهلية الخيرية والدعاوية والتنموية والثقافية والرياضية.
ويواجه التعريف الذي يركز فقط على الجانب الاختياري أو التطوعي في العضوية نفس الإشكالية. فمنظمات المجتمع المدني تتباين كثيرا من حيث درجة انفتاح عضويتها؛ فبعضها كالنوادي الخاصة يشترط رسوم اشتراك واهتمامات معينة، وبعضها كمؤسسات البحث والجامعات والمعاهد الأهلية يشترط مؤهلات أكاديمية وعلمية وتخصصية معينة، وتفرغ للعمل المدفوع الأجر. وتضع النقابات المهنية شروطا للعضوية وتحصرها في مجموعات وفئات مهنية. وتتطلب الأحزاب عادة الموافقة على برنامج الحزب ونظامه الداخلي. وهناك روابط كالجمعيات والروابط والمؤسسات الدينية أو الطائفية التي تعمل وفق رؤية دينية محددة في مجال التنمية وحقوق الإنسان، وهناك الجمعيات الخيرية والإغاثية التي تعتمد، إلى هذا الحد أو ذاك، على العمل التطوعي لكن تشمل عددا من المتفرغين والموظفين. باختصار ليست التطوعية غير المقيدة هي السمة الغالبة لعدد غير قليل من منظمات "المجتمع المدني" التي تضع شروطا على عضويتها. ومن هنا فإن التعاطي مع المجتمع المدني وكأنه جسم قائم بذاته أو مترابط أو موحد يقود إلى استنتاجات وتصورات خاطئة.
المجتمع المدني هو تشييد فكري يجمع بين تضامنيات شديدة التباين (من حيث الأهداف والقاعدة الاجتماعية وشكل التنظيم ومصادر التمويل) التي تقام خارج مؤسسات الدولة والسوق والروابط الإرثية. والسؤال هو هل هذا المفهوم يشكل أداة تحليلية مفيدة رغم الخلاف على ما يدخل في مكوناتها؟
منظمات المجتمع المدني والتمايز عن الدولة والسوق
هناك ما يميز منظمات المجتمع المدني عن مؤسسات الدولة أو مؤسسات اقتصاد السوق (شركات، مصانع، ورش، بنوك، مطاعم، مشاريع خدماتية مختلفة، وما شابه). ولعل أبرز ما يميز المنظمات المدنية عن الدولة والسوق يكمن في طبيعة العلاقة التي تقيمها مع جمهورها. وهي علاقة تفترض امتلاك هذه المنظمات ليس مجرد درجة عالية من الاستقلالية في إدارة شؤونها وفي صياغة خططها ونشاطاتها وفي محرك علاقتها مع الجمهور (فهذه الاستقلالية قد تكون متوفرة في مؤسسات القطاعين الخاص والعام)، بل تتمايز في شكل ومضمون العلاقة التي تقيمها مع جمهورها. ولا تتعامل معه من موقع العلاقة بين المؤسسة والفرد وفق إجراءات وقوانين وقواعد مقننة (كما يفترض أن تتعامل معه الدولة). بل تتعامل معه بالأساس كجمهور مكون من فئات متباينة المصالح والاهتمامات والاحتياجات والتكوين (من حيث الجنس والعمر)، من موقع تمثيل هذه المصالح ، ومن موقع الحرص على إشراك الجمهور في تنظيم نفسه وفي الدفاع عن حقوقه الجمهور ورعاية احتياجاته الخاصة..
ويشرّع استقلالية المنظمات المدنية في إدارة شؤونها الداخلية وصياغة برامجها وخطط عملها القوانين مشرّعة. وهذه القوانين تحددها موازين قوى اجتماعية وسياسية، وتتأثر بعوامل إقليمية ودولية. ويحدد مضمونها وتطبيقاتها كقوانين حامية للحريات العامة ديمقراطية النظام السياسي، والقوة التفاوضية لمنظمات المجتمع المدني الرئيسة، والتي تحددها فعالية واتساع القاعدة الجماهيرية لهذه المنظمات وطبيعة العلاقة التي تقيمها معها (قدرتها التعبوية). فبعض منظمات المجتمع المدني - في مجال العمل السياسي الحزبي، على سبيل المثال - قد يحظر عليه النشاط العلني. وفي هذه الحالة يتحدد تأثير مثل هذه المنظمات وفعاليتها بمدى تأييدها ودعمها من الجمهور، ودرجة القمع الذي تتعرض له من السلطة المركزية أو السلطة المهيمنة (وطنية كانت أم أجنبية). ومن الواضح أن قدرة منظمات المجتمع المدني على التواصل والتجدد مرتبطة، من بين عوامل أخرى، بقدرتها على تلبية حاجات وتطلعات اجتماعية وبقدرتها على تمثيل مصالح فئات اجتماعية ودورها التعبوي والتنظيمي.كما تتصل بقدرتها على حشد الموارد الضرورية لمواصلة وتوسيع نشاطها. ويمكن القول أن منظمات المجتمع المدني تستمد مبرر وجودها وشرعيتها، بالأساس،من علاقتها الخاصة بجمهورها وعلاقته بها، وشكل هذه العلاقة التي قد تستند إلى ما توفره من خدمات مادية أو تأهيلية، أو إلى قدراتها التنظيمية والتعبوية في الدفاع عن حقوق ومصالح هذا الجمهور، وإلى فعالية نشاطها السياسي أو الاجتماعي أو الفكري أو الثقافي.
من هنا يمكن القول أن ما يميز، وإن بشكل عام جدا، منظمات المجتمع المدني، بتنوعها الشديد، عن مؤسسات الدولة (التنفيذية والتشريعية والقضائية) يتمحور حول طبيعة نشاطها، وما يفرزه من أنماط تنظيمية متنوعة. فالعلاقة بين المواطن والدولة الوطنية العصرية هي علاقة تعاقدية، مقننة، عادة، في دستور أو قوانين أساسية، تتجسد في واجبات محددة (دفع ضرائب، خدمة وطنية، احترام القانون…). كما تتجسد في حقوق (حق التنظيم والتعبير عن الرأي والمعتقد، والوصول إلى خدمات أساسية، الخ).
وتتمايز علاقات المنظمات المدنية مع الجمهور عن علاقته بالمؤسسات الاقتصادية والمالية المرتبطة بآليات السوق الرأسمالي والقائمة على الربح وإنتاج سلع وخدمات مختلفة موجهة للسوق، فهذه المؤسسات (مؤسسات القطاع الخاص) تتعامل معه كمستهلك أو كموظف أو أجير، أو في أحسن الأحوال كمستثمر. فمحرك عمل وهدف منظمات المجتمع المدني ليس الربح أو تطوير آليات السوق الرأسمالي. فهو محرك يتحدد وفق تنوع منظمات المجتمع المدني (عمل الخير، الإغاثة، التنمية، التأهيل، التنوير، الرعاية، التضامن الاجتماعي، التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي …). أي أن مجالات منظمات المجتمع المدني هي تلك المجالات التي لا تخضع لإدارة وتوجيه مؤسسات الدولة وتنظيمها، وتعتمد إدارات مستقلة يخضع دورها وأشخاصها وبرامجها وخططها، نظريا على الأقل، لموافقة وتوجهات ومساءلة الأعضاء والجمهور المعني. كما لا تخضع نشاطاتها لاعتبارات وآليات السوق، وإن كانت غير معزولة عنه. ولعل هذا الاعتبار كان وراء اعتبار المجتمع المدني، عند مفكرين مثل غرامشي، المجال الذي يجري فيه الصراع على الهيمنة القائمة على الاقتناع وليس على السيطرة.
يمكن النظر إلى منظمات المجتمع المدني (والأهلي) من منظور وظائفي. أي من حيث ما قد توفره من حماية إزاء تعسف أو تجاوزات السلطة المركزية، وكذلك إزاء ما تفرزه آليات السوق الرأسمالي من استثناء ولامساواة وتهميش. لكن من وظائف منظمات المجتمع المدني أن توفر الحماية للفرد ضد عسف أو قمع أو تجاوزات بعضها البعض بما في ذلك تعسف المنظمات الأرثية (العشائرية والطائفية والمحلية). وتجدر الإشارة هنا أن من وظائف الدولة الديمقراطية توفير الحماية للمواطن من تجاوزات لحقوقه قد تقوم بعض منظمات المجتمع المدني أو الأهلي.
برز الاهتمام بالمنظمات المدنية باعتبارها وسائط للتنمية في العقدين الأخيرين. وترافق ظهور هذه توجه المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ..) نحو الخصخصة، والتكييف الهيكلي وتقليص دور الدولة الاقتصادي في إطار تهيئة المناخ ا لنمو القطاع الخاص، وتقليص خدمات الدولة الاجتماعية للمواطنين. ومن هنا بات ينظر إلى المنظمات الأهلية كوسائط للتنمية المحلية وتولي وظائف "دولة الرعاية"في مجال توفير خدمات أساسية للمواطنين. وتم تسويغ هذا التوجه عبر مقولة أن حرية تشكيل منظمات مدنية هي صلب حقوق الإنسان. واعتبار أن هذا الحق يتجسد في تشكيل الروابط والمنظمات والمؤسسات الهادفة إلى تحسين مستويات المعيشة، والمطالبة بتنفيذ برامج وخطط وقوانين معينة، والدفاع عن مصالح وحقوق الفئات الاجتماعية المختلفة. ومن هنا فكرة مشاركة الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني ( القطاعات الثلاثة) في عمليات التنمية. ونجد في هذه التوجهات تفسير الاهتمام الدولي (الغربي الحكومي والمدني المحلي) في تشجيع وتمويل العديد من المنظمات غير الحكومية في دول العالم الثالث، بما فيها العالم العربي، باعتبارها أقل عرضة للفساد والهدر من المؤسسات الحكومية وأقدر على الضغط على هذه ومراقبتها. ويترتب على التمويل الخارجي لقطاع من المنظمات المدنية تساؤلات تتعلق بتأثير "أجندا" الجهات المانحة على برامج المنظمات المدنية المستقبلة، كما على قدرتها على إدامة نفسها، وعلى التمتع باستقلالية برنامجية ومالية.
"المجتمع المدني" في الفكر العربي: غياب الاقتصاد والسياسة
يهيمن على الأدبيات العربية المتداولة حاليا، موقفا قوامه أن المجتمع المدني هو شرط قيام نظم ديمقراطية وضمانة ترسخ الحريات السياسية والحقوق المدنية وتجسيدها. لكن هذا الرأي ينضوي على تبسيط مضلل للعلاقة لكل من الدولة والمجتمع المدني. فهو يقفز عن حقيقة أن لا مضمون للمجتمع المدني بدون حضور الدولة. وهو يختزل الدولة إلى الحكومة (السلطة التنفيذية)، متجاهلا (غياب أو حضور) كل من السلطتين التشريعية والقضائية. كما ينظر للدولة كجسم متجانس وموحد دون توترات وصراعات وتباينات. كما ينظر إلى المجتمع كجسم موحد وتناسق الوظائف والمهام دون توترات وصراعات وانقسامات.
وهي رؤية تتجاهل التنوع الشديد في منظمات المجتمع المدني من حيث وظائفها والفئات الاجتماعية التي تتوجه إليها أو تسعى لتمثيلها أو لتنظيمها، ومن حيث مصادر تمويلها، وفلسفتها ، وبنيتها الداخلية، وظروف نشأتها. كما تميل هذه الرؤية إلى وضع المنظمات المدنية خارج المجتمع عبر النظر إليها كأجسام تقدم خدمات أو تتولى نشاطات تنموية أو خيرية أو تقوم بتنظيم وتأطير جمهور معين أو تمارس نشاطات دفاعية وإعلامية من فوق أو من جانب أو خلف المجتمع. أي أنها لا تنظر إلى المنظمات المدنية كجزء من تشكيلة مجتمعية بتكويناتها الاجتماعية السياسية والاقتصادية والثقافية، وباعتبار هذه التشكيلة تقييم في فضاءات سياسية-اقتصادية إقليمية ودولية لها استحقاقاتها وتفاعلاتها وتناقضاتها.
كما تميل مثل هذه الرؤية للمجتمع المدني إلى إختزال وتنميط علاقاته بالدولة. وهي علاقات تأخذ، في الواقع، أشكالا متنوعة ومتغيرة ومعقدة في معظم الأحيان. ويسري هذا الميل للتنميط التبسيطي على علاقة منظمات المجتمع المدني مع بعضها البعض. وهذه علاقات تتنوع في العادة لتشمل التنسيق أو التنافس أو الصراع وفق نشاطها وفلسفتها لدورها ومصادر تمويلها وتكوين وحجم قاعدتها الاجتماعية.
تختزل معالجة علاقة الدولة بمنظمات المجتمع المدني، إلى علاقاتها بما يعرّف بـ "المنظمات غير الحكومية"، مما يستثني، أو يساوي في الدور، منظمات "مجتمع مدني" أخرى ذات أهمية خاصة لمفهوم المواطنة كالأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات الشعبية والمهنية والحركات الاجتماعية الأخرى، بالإضافة إلى الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى والغرف التجارية والصناعية والجامعات والمعاهد العليا. أي أن منطلق بحث العلاقة يستدعي إدراك تنوع منظمات المجتمع المدني، وأبعاد هذا التنوع على العلاقة مع السلطة المركزية. كما يتطلب إدراك التغير الذي تدخله الدولة على الحقل السياسي الوطني في مجال المؤسسات الرسمية و الإدارات العامة والأجهزة الأمنية والعسكرية، والنظام القضائي والتشريعي. وما تفعله هذه من تحولات في البنية الاقتصادية للمجتمع، ليس فقط من حيث أنها (أي الدولة) تشغل نسب متفاوتة (وعالية في معظم الدول العربية)، من القوى العاملة، بل وكذلك من حيث فعلها في الاقتصاد الوطني وبنيته، من حيث حجم ودور وسمات القطاع الخاص. أي أن الدولة القومية أو الحديثة لها وقع تراكمي على تشكل البنية الطبقية والاجتماعية، ولهذه تأثيرها على تكوين المجتمع المدني (أحزاب، نقابات، غرف تجارية وصناعية، منظمات خيرية) وكثافته.
كما أن بنية الاقتصاد الوطني وموقعه في شبكة العلاقات الاقتصادية الإقليمية والدولية له تأثيراته القوية على منظمات المجتمع المدني وكثافة حضورها ومجالات هذا الحضور والمصالح التي تمثلها المنظمات المدنية ومراكز القوى التي تستند إليها وموازينها، وأشكال الصراع و التفاوض التي تجري بين هذه لتحديد قوانين اللعب في الحقل السياسي، وبالتالي شكل نظام الحكم. والعلاقة بين مراكز القوى في المجتمع وموازينها هي التي تحدد، في المحصلة، ديمقراطية أو لاديمقراطية النظام السياسي، وليس عدد المنظمات المدنية أو مجموع ما تقوم به من وظائف.

المواطنة بين الدولة والمجتمع المدني
من العبث البحث عن مفهوم واحد قادر على حصر تنوع منظمات "المجتمع المدني" في شكل أو وظيفة أو نمط واحد. فهذه تعمل في مجالات مختلفة وتحمل رؤى متباينة لدورها، وتعتمد وسائل عمل وعلاقات مع الجمهور (وهو جمهور متنوع من حيث المصالح والاحتياجات والمطامح والرؤى المجتمعية) وهيكليات ومصادر تمويل شديدة التنوع. ولذا فإن أية محاولة لاختزال منظمات المجتمع المدني لنمط واحد أو تلبيسها رؤية موحدة أو تصور أسلوب عمل واحد لها، سيكون مصيرها تبديد المكون الأساسي لما يُعرّف بالمجتمع المدني، باعتباره الحقل الذي تتمثل فيه وتنافس وتتعايش تعبيرات ورؤى اجتماعية وفكرية وسياسية متعددة ومتباينة، وأحيانا متناقضة أو متعارضة، بحكم التكوين المعقد والمركب والمتباين لتشكيلية الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية لأي مجتمع إنساني، بما فيها مجتمعاتنا العربية المتباينة في تكوين أنظمة الحكمة فيها وفي تركيبتها السياسية والاجتماعية، وبنيتها الاقتصادية وحجم ومصادر مواردها رغم ما هو مشترك على الصعيد الثقافي والتاريخي واللغوي.
أرى أن الهم المركزي عربيا ينبغي أن ينصب على دمقرطة بنية الدولة الوطنية بما يؤصل المواطنة (القائمة أساسا على سيادة القانون ومساواة الجميع أمامه). ومن هنا تصبح مساءلة مؤسسات "المجتمع المدني" – باعتبارها المجال الذي يعبر فيه المواطنين عن حقهم، بل ومسئوليتهم، في إقامة والانتماء إلى الروابط والتضامنيات والجمعيات والأحزاب والنقابات والاتحادات - تنصب على دورها في تجسيد المواطنة وتوسيعه ليشمل ليس الحقوق السياسية فقط بل والحقوق الاجتماعية. وهنا سنجد أن مؤسسات المجتمع المدني تتباين كثيرا فيعضها يسعى بعضها للتغيير الاجتماعي لصالح مجالات الحرية، وتوسيع وتكريس العدالة الاجتماعية والتضامن المجتمعي، يعمل بعضها الآخر لصالح إعادة النتاج نظم قائمة على سلب أسس المواطنة تحت مسميات مختلفة كالحفاظ على التراث والأصالة والخصوصية ولمواصلة التعامل مع المواطنين كرعايا أو كانتماءات عشائرية أو جهوية أو أثنية أو طائفية...
قد يكون الأجدى الاستغناء عن تعبير المجتمع المدني والعودة إلى المفاهيم الكلاسيكية في التحليل الاجتماعي عن أحزاب (حاكمة وأحزاب معارضة) واتحادات ونقابات وحركات اجتماعية ومنظمات مدنية حقوقية وخيرية وتنموية وعن بنى اجتماعية واقتصادية وثقافية وانقسامات طبقية وأثنية و حضرية-ريفية، الخ في المجتمع. وهذا يعني العودة إلى التحليل الملموس للواقع الملموس في كل مجتمع عربي دون الحديث العام المجرد.. وهذا ما يتيح فهم خصوصيات ديناميكيات كل مجتمع عربي، والديناميكات المشتركة بينها وأين تتجه...
فطبيعة التحديات التي تواجه المجتمع العراقي وقواه السياسية والمدنية ، والمجتمع الفلسطيني، تختلف عن تلك التي تواجه المجتمع السوداني، أو اللبناني أو السوري، والأخيرة تختلف عن ما يواجه المجتمع السعودي أو اليمني أو المغربي، وهكذا... إن العودة إلى المفاهيم الكلاسيكية والمجربة في التحليل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي قد يحرر هذا التحليل من القيود الفكرية والأيديولوجية والقيمية التي بات مفهوم المجتمع المدني مثقل بها في الحقل المفاهيمي العربي. ولعل من الملفت أن قليلة جدا هي الدراسات السوسيولوجية التي تحلل المجتمعات الأوروبية والمتقدمة اقتصاديا تستخدم مفهوم المجتمع المدني..
رام الله، تشرين أول/اكتوبر 2004

ليست هناك تعليقات: